وقال ابن عباس : فتح الله عليهم باباً من جهنم فأرسل عليهم منه حراً شديداً فأخذ بأنفسهم فدخلوا جوف البيوت، فلم ينفعهم ماء ولا ظل وأنضجهم الحر فبعث الله سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح وطيبها وظل السحابة، فتنادوا عليكم بها فخرجوا نحوها فلما اجتمعوا تحتها رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله عليهم ناراً، ورجفت بيهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رماداً وهو عذاب يوم الظلة.
قال في "التأويلات النجمية" : من عنادهم رأوا الحق باطلاً والباطل حقاً والفلاح خسراناً والخسران فلاحاً ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ فصارت صورتهم تبعاً لمعناهم ﴿فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَـاثِمِينَ﴾ الأرواح في ديار الأشباح.
﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا﴾ استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم فيما سبق.
﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ﴾ وعقوبتهم بمقابلته والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى :﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَآ﴾ أي : استأصلوا بالمرة وصاروا كأنهم لم يقيموا بقريتهم أصلاً أي عوقبوا بقولهم ذلك، وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجاً لا دخول بعده أبداً والمغنى المنزل والمغاني المنازل التي كانوا بها يقال غنينا بمكان كذا، أي نزلنا فيه.
وفيه إشارة إلى أن المكذبين والمتكبرين وإن كانت لهم غلبة في وقتهم ولكن تنقضي أيامهم بسرعة ويسقط صيتهم ويخمل ذكرهم ويضمحل آثارهم ويكون أهل الحق مع الحق غالباً في كل أمر والباطل زاهق بكل وصف.
وفي "المثنوي" :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٠٢
يك مناره در ثناى منكران
كودرين عالم كه تاباشد عيان
منبري كوكه برانجا مخبري
يا دا آرد روز كار منكري
يا رغالب شوكه تاغالب شوى
يار مغلوبان مشوهين اي غوى
﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَـاسِرِينَ﴾ استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير، أي : الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بمقالتهم الأخيرة، فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لا الذين اتبعوه، وبهذا الحصر اكتفى عن التصريح بإنجائه عليه السلام كما وقع في سورة هود من قوله تعالى :﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ﴾ (هود : ٥٨) الآية.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٠٢
﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَـالَـاتِ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾ قاله عليه السلام بعدما هلكوا تأسفاً بهم لشدة حزنه عليهم، ثم أنكر على نفسه ذلك، فقال :﴿فَكَيْفَ ءَاسَى﴾ أي : أحزن حزناً شديداً بالفارسية (س ه كونه اندوه خورم وغمناك شوم) فهو مضارع متكلم من الأسى من باب علم وهو شدة الحزن.
﴿عَلَى قَوْمٍ كَـافِرِينَ﴾ مصرين على الكفر ليسوا أهل حزن لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم، أو قاله اعتذاراً من عدم تصديقهم له وشدة حزنه عليهم، والمعنى : لقد بالغت في الإبلاغ والإنذار وبذلت وسعي في النصح والإشفاق فلم تصدقوا قولي فكيف آسى عليكم.
وفي "المثنوي" :
ون شوم غمكين كه غم شدسر نكون
غم شما بوديد اي قوم حرون
كمخوان اي راست خواننده ببين
كيف آسى خلف قوم ظالمين
قال في "التأويلات النجمية" : يعني خرجت عن عهدة تكليف التبليغ فإنه ما على الرسول إلا البلاغ فإنه وإن نصحت لكم فما علي من إقراركم وإنكاركم شيء إن أحسنتم فالميراث الجميل لكم، وإن
٢٠٤
أسأتم فالضرر بالتألم عائد عليكم ومالك الأعيان أولى بها من الأعيان فالخلق خلقه والملك ملكه إن شاء هداهم، وإن شاء أغواهم فكيف آسى على قوم كافرين فلا تأسف على نفي وفقد ولا أثر من كون ووجود لأن الكل صادر من حكيم بالغ في حكمته كامل في قدرته انتهى.
قال الله تعالى :﴿لِّكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَآ ءَاتَاكُمْ﴾ (الحديد : ٢٣) وهذا إنما يحصل عند الفناء الكلي وهو للأنبياء عليهم السلام وكمل الأولياء.
واعلم : أن كل أهل ابتلاء ليس بمحل للرحمة عند نظر الحقيقة لأن الله تعالى ابتلاه بسبب جفائه إياه فقد اكتسبه بعلمه فكيف يترحم له ولذا كان أهل الحقيقة كالسيف الصارم مع كونهم رحم خلق الله تعالى ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ﴾ (النور : ٢).
قال السعدي قدس سره :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٠٤
كرا شرع فتوى دهد برهلاك
ألا تاندارى زكشتنش باك
والله تعالى غيور وعبده في غيرته فالحلم والغضب بقدر ما أذن فيه الشرع من أخلاق الأنبياء، وهو لا يقدح في فراغ القلب عن كل وصف ؛ لأن رعاية الأحكام الظاهرة لا تنافي التوغل في الحقيقة فعلى العاقل أن يدور بالأمر الإلهي ويرفع عن لسانه وقلبه لِمَ لا، وكيف فإن الأمر بيد الله تعالى لا بيده.