قال ابن الشيخ : قلبوها وصرفوها على أن تدرك الشيء على ما هو عليه بسبب ما فعلوه من التمويهات.
﴿وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ استفعل ههنا بمعنى أفعل والسين لتأكيد معنى الرهبة، أي بالغوا في إرهابهم.
﴿وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ في وقته.
روي أنهم جمعوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً كأنها حيات جسام غلاظ ولطخوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا الزئبق دخل تلك العصي فلما أثرت حرارة الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جداً تخيل الناس أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وصار الميدان كأنه مملوء بالحيات.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢١٢
﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَا فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ الفاء فصيحة، أي : فألقاها فصارت حية فإذا هي تلقف، أي : تلقم وتبتلع من لقف يلقف على وزن علم يعلم، يقال لقفته ألقفه لقفاً وتلقفته أتلقفه تلقفاً إذا أخذته بسرعة فأكلته وابتلعته ويأفكون، أي : يزورون من الإفك وهو الصرف وقلب الشيء عن وجهه.
روي أنها لما تلقفت حبالهم وعصيهم وابتلعتها بأسرها أقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتى هلك جمع عظيم لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، ثم أخذها موسى فصارت عصاً كما كانت وأعدم الله بقدرته القاهرة تلك الأجرام العظام أو فرقها أجزاء لطيفة، فقالت السحرة : لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢١٣
﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ﴾ أي : ثبت وصدق موسى عليه السلام في قوله (إني رسول من رب العالمين) حيث صدق الله تعالى بما أظهر على يده من المعجزة الباهرة.
﴿وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي : ظهر بطلان ما كانوا مستمرين على عمله وهو السحر.
﴿فَغُلِبُوا﴾ أي : فرعون وأتباعه ﴿هُنَالِكَ﴾
٢١٣
أي : في مجلسهم.
﴿وَانقَلَبُوا صَـاغِرِينَ﴾ أي : صاروا أذلاء مبهوتين فالانقلاب هنا بمعنى الصيرورة.
﴿وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَـاجِدِينَ﴾ أي : خروا سجداً كأنما ألقاهم ملق لشدة خرورهم كيف لا وقد بهرهم الحق واضطرهم إلى ذلك، ففي الكلام استعارة تمثيلية حيث شبه حالهم في سرعة الخرور وشدته حين شاهدوا المعجزة القاهرة بحال من ألقي على وجهه فعبر عن حالهم بما يدل على حال المشبه به.
﴿قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾.
رب موسى وهارون أبدلوا الثاني من الأول لئلا يتوهم أن مرادهم فرعون لأن فرعون وإن ربى موسى وهو صغير إلا أنه لم يربّ هارون قطعاً قال ابن عباس : آمنت السحرة واتبع موسى من بني إسرائيل ستمائة ألف.
﴿قَالَ فِرْعَوْنُ﴾ منكراً على السحرة موبخاً لهم على ما فعلوه.
﴿بِه ا ءَآلَاـانَ﴾ بهمزة واحدة إما على الإخبار المحض المتضمن للتوبيخ أو على الاستفهام التوبيخي بحذف الهمزة، كما مر في (إن لنا لأجراً) ﴿قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ﴾ أي : بغير أن آذن لكم، كما في قوله تعالى :﴿لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـاتُ رَبِّى﴾ (الكهف : ١٠٩) لا أن الأذن منه ممكن في ذلك.
﴿إِنَّ هَـاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ﴾ يعني : إن ما صنعتموه ليس مما اقتضى الحال صدوره عنكم لقوة الدليل وظهوره المعجزة بل هو حيلة احتلتموها أنتم وموسى.
﴿فِى الْمَدِينَةِ﴾ يعني : مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد.
روي أن موسى وأمير السحرة التقيا، فقال له موسى : أرأيتك إن غلبتك لتؤمنن بي وتشهدن أن ما جئت به الحقّ فقال الساحر والله لئن غلبتني لأؤمنن لك وفرعون يسمعها وهو الذي نشأ عنه هذا القول.
﴿لِتُخْرِجُوا مِنْهَآ أَهْلَهَا﴾ يعني : القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل.
﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ عاقبة ما فعلتم وهو تهديد مجمل تفصيله.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢١٣
﴿لاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَـافٍ﴾ أي : من كل شق طرفاً يعني أيديكم اليمنى وأرجلكم اليسرى.
﴿ثُمَّ لاصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ على شاطىء نهر مصر على جذوع النخل تفضيحاً لكم وتنكيلاً لأمثالكم.
قيل : هو أول من سنّ ذلك فشرعه الله تعالى لقطاع الطريق تعظيماً لجرمهم ولذلك سماهم تعالى محاربة الله ورسوله.
﴿قَالُوا﴾ ثابتين على ما أحدثوا من الإيمان وهو استئناف بياني.
﴿إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ راجعون، أي : بالموت لا محالة سواء كان ذلك من قبلك أم لا فلا نبالي بوعيدك أو إنا إلى رحمة ربنا وثوابه، منقلبون إن فعلت بنا ذلك كأنهم استطابوه شغفاً على لقاء الله تعالى.
وفي "المثنوي" :
جانهاى بسته اندر آب وكل
ون رهند ازآب وكلها شاد دلدرهواى عشق حق رقصان شوند
همو قرص بدر بي نقصان شوند
ون نقاب تن برفت ازروى روح
ازلقاى دوست دارد صد فتوحميزند جان در جهان آبكون
نعره يا ليت قومي يعلمون ﴿وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ﴾ أي : وما تنكر وما تعيب منا.
﴿إِلا أَنْ ءَامَنَّا بآيات رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا﴾ وهو خير الأعمال وأصل المناقب ليس مما يتأتى لنا العدول عنه طلباً لمرضاتك.