قال ابن عباس : أما السنون فكانت لباديتهم وأهل ماشيتهم وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم.
﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ كي يتذكروا ويتعظوا بذلك ويتيقنوا أن ذلك لأجل معاصيهم وينزجروا عما هم عليه من العتو والعناد، فلعل علة المأخذ إما بناء على تجويز تعليل أفعاله تعالى بأغراض راجعة إلى العباد كما ذهب إليه كثير من أهل السنة، وإما تنزيلاً لترتب الغاية على ما هي ثمرة له منزلة ترتب الغرض له فإن استتباع أفعاله تعالى لغايات ومصالح متقنة جليلة من غير أن تكون هي علة غائية لها بحيث لولاها لما أقدم عليها مما لا نزاع فيه.
دلت الآية على أن المحن والشدائد والمصيبات موجبات الانتباه والاعتبار، ولكن لأهل السعادة وأولي الأبصار فأما أهل الشقاوة فلا ينبههم كثرة النعمة ولا يوقظهم شدة النقمة.
قال الشيخ السعدي قدس سره :
بكوشش نرويد كل از شاخ بيد
نه زنكى بكرمابه كردد سفيد
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢١٣
﴿فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ﴾ أي : السعة والخصب وغيرهما من الخيرات.
﴿قَالُوا لَنَا هَـاذِهِ﴾ أي : لأجلنا واستحقاقنا لها ولم يروا ذلك فضلاً من الله.
﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةُ﴾ أي : جدب وبلاء ﴿يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَه﴾ أي : يتشاءموا بموسى وأصحابه ويقولوا ما أصابتنا إلا بشؤمهم وأصله يتطيروا أدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجهما واشتقاق التطير من الطير كالغراب وشبهه سمي الشؤم ضد اليمن طيراً وطائراً تسمية للمدلول باسم ما يدل عليه، فإنهم يجعلون الطير والطائر إمارة ودليلاً على شؤم الأمر وبناء التفعل فيه للتجنب أي لبعد الفاعل عن أصله كتحوب أي تجنب وتباعد من الحوب وهو الإثم وسيجيء تفصيل الطيرة.
قال سعيد بن جبير : كان ملك فرعون أربعمائة سنة فعاش ثلاثمائة سنة لا يرى مكروهاً ولو رأى في تلك المدة جوع يوم، أو حمى يوم، أو وجع ساعة لما ادعى الربوبية، ولما قالوا سبب ما جاءنا من الخير والحسنة هو استحقاق أنفسنا إياه وسبب ما أصابنا من السيئة والشر هو شأمة موسى ومن معه كذبهم الله تعالى في كل واحد من الحكمين بقوله :﴿إِلا﴾ اعلموا ﴿إِنَّمَا طَائرُهُمْ عِندَ اللَّهِ﴾ أي : سبب ما أصابهم من الخير والشر إنما هو عند الله تعالى وصفة قائمة به، وهي قضاؤه وتقديره ومشيئته
٢١٧
وهو الذي أيهما شاء أصابهم به وليس بيمن أحد ولا بشؤمه عبر عما عند الله تعالى بالطائر تشبيهاً له بالطائر الذي يستدل به على الخير والشر، أو سببه شؤمهم عند الله تعالى وهو أعمالهم السيئة المكتوبة عنده فإنها التي ساقت إليهم ما يسوءهم لا ما عداها، فالطائر عبارة عن الشؤم على طريق تسمية المدلول باسم الدليل بناء على أنهم يستدلون بالطير على الشؤم، ﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ أن ما يصيبهم من الله تعالى أو من شؤم أعمالهم فيقولون ما يقولون مما حكي عنهم وإسناد عدم العلم إلى أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك ولكن لا يعملون بمقتضاه عناداً واستكباراً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢١٧
واعلم أن الطير بمعنى التشاؤم والاسم منه الطيرة على وزن العنبة وهو ما يتشاءم به من الفأل الرديء.
والأصل في هذا : أن العرب كانوا يتفاءلون بالطير فإن خرج أحدهم إلى مقصده وأتى الطير من ناحية يمينه يتمين به ويتبرك ويسميه سانحاً، وإن أتى من ناحية شماله يتشاءم به ويسميه بارحاً فيرجع إلى بيته ثم كثر قولهم في الطير حتى استعملوه في كل ما تشاءموا به، وأبطل النبي عليه السلام الطيرة بقوله :"الطيرة شرك" قاله :"ثلاثاً" وإنما قال شرك لاعتقادهم أن الطيرة تجلب لهم نفعاً أو تدفع عنهم ضرراً إذا عملوا بموجبها، فكأنهم أشركوها مع الله تعالى.
قال عبد الله : من خرج من بيته ثم رجع لم يرجعه إلا الطيرة رجع مشركاً أو عاصياً.
وذكر في "المحيط" : إذا صاحت الحمامة، فقال رجل : يموت المريض كفر القائل عند بعض المشايخ، وإذا خرج الرجل إلى السفر فصاح العقعق فرجع من سفره فقد كفر عند بعض المشايخ.
قال عكرمة : كنا عند ابن عمر وعنده ابن عباس رضي الله عنهما فمر غراب يصيح، فقال : رجل من القوم خير خير، فقال ابن عباس : لا خير ولا شر، وإنما اختص الغراب غالباً بالتشاؤم به أخذاً من الاغتراب بحيث قالوا غراب البين ؛ لأنه بان عن نوح عليه السلام لما وجهه لينظر إلى الماء فذهب ولم يرجع، ولذا تشاءموا به واستخرجوا من اسمه الغربة.