يقول الفقير : هذا ليس بمحل الجرح والإنكار لأن الله تعالى وإن خلق حاسة السمع لإدراك الأصوات لكن يجوز أن يدرك بحاسة ما يدرك بحاسة أخرى، كما ذهب إليه علماء الكلام لأن ذلك الإدراك بمحض خلق الله تعالى من غير تأثير للحواس، فلا يمتنع أن يخلق عقيب صرف الباصرة إدراك الأصوات مثلاً فثبت أن كل عضو من الأعضاء الإنسانية يجوز أن يخلق الله تعالى فيه ما خلق في السمع من إدراك الأصوات.
إن قيل : لِمَ لم يكلم الله سائر الأنبياء مشافهة إلا موسى؟.
قيل : لأنه لم يكن لهم من الأعداء ما لموسى كفرعون وهامان وقارون واليهود ولم يكن قوم أسوأ أدباً وأقسى قلباً من قومه فخصه الله بكلامه ألا ترى سحرة القبط آمنوا في أول دعوته وكفر قوم من اليهود بعد مشاهدتهم معجزات كثيرة فأيده الله بكلامه ليتحمل به ما امتحن به من البلايا في قومه.
يقول الفقير : كون عدو موسى أقوى وأشد إنما هو بالنسبة إلى أعداء الأنبياء غير نبينا صلى الله عليه وسلّم فإنه قد ثبت أن فرعون آمن عند الغرق، وأما أبو جهل فلا بل أظهر العداوة عند النزع فاعتبر منه قوة حاله وعلو مقامه صلى الله عليه وسلّم في المكالمة والرؤية ليلة المعراج وفي الحديث :"ناجى موسى ربه بمائة ألف وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام وصايا كلها" كذا في "الوسيط".
وقال بعضهم : كلم الله موسى أربعين يوماً وليلة وهذا والله أعلم غير الأربعين المتقدمة على الوحي والتعليم.
وعن فضيل بن عياض : قال حدثني بعض أشياخي أن إبليس جاء إلى موسى وهو يناجي ربه فقال الملك ويلك ما ترجو منه وهو على هذه الحال يناجي ربه قال أرجو منه ما رجوت من أبيه آدم وهو في الجنة.
وكذا قال السدي : لما كلم الله موسى غاص الخبيث إبليس في الأرض حتى خرج من بين يدي موسى فوسوس إليه أن مكلمك
٢٣٠
شيطان.
يقول الفقير : يرده ما سبق من أن الشيطان طرد عنه وقتئذٍ وهو الصحيح لأن المقام لا يسع الشيطان وإنما سلطانه على أهل الملك دون أرباب الملكوت وفرق بينه وهو مناج في الطور وبين آدم وهو معاشر في الجنة.
فإن قلت قوله تعالى في سورة الحج :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّه لا إله إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الحج : ٥٢) يدل على أن كل نبي مبتلى بذلك خصوصاً وقت التلاوة وهي من أنواع المناجاة.
قلت : فرق بين التلاوة الظاهرة والمناجاة الباطنة ألا ترى إلى قوله عليه السلام :"لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل".
فما ظنك بالشيطان المردود إلى أسفل سافلين البعد هكذا لاح ببالي والله أعلم ولما سمع موسى كلام ربه غلب عليه الشوق إلى رؤيته وقال : هذه لذة الخبر فكيف لذة النظر مع أن الكل يعمل على شاكلته وشاكلة البشر وفطرته على طلب العلو والترقي إذا ظفر بشيء طلب ما هو أعلى منه ولا أعلى من تجلي الجمال وفيض الوصال فسأل الرؤية.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٧
وفي "التفسير الفارسي" :(ون موسى كلام حق شنيد وازجام كلام رباني جرعه ذوق محبت شيد فراموش كردكه او دردنياست خيال بست كه درفردوس اعلاست وون جنت جاى مشاهده لقاست).
﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِى﴾ ذاتك، أي : مكنني من رؤيتك.
﴿أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ أرك فالنظر بمعنى الرؤية إلا أن المطلوب بقوله أرني ليس أن يخلق الله تعالى رؤية ذاته المقدسة في موسى حتى يلزم كون الشيء غاية لنفسه بأن يكون المعنى أرني نفسك حتى أراك ؛ لأنه فاسد بل المطلوب به أن يمكنه من رؤية ذته المقدسة وتمكينه تعالى إياه من الرؤية سبب لرؤية موسى إياه تعالى فأطلق عليه اسم الرؤية المسببة عنه مجازاً.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما قال موسى عليه السلام :﴿أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ كشف الحجاب وأبرز له الجبل وقال انظر فنظر فإذا أمامه مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي محرمين ملبين كلهم يقول : أرني أرني.
واعلم : أن الأجساد تنمو بنماء الأقوات كذلك الأحوال تصفو بصفاء الأوقات فقوت جسدك ما غذيته من الطيبات وقوت روحك ما ربيت به من أقوات الطاعات في أوقات الخلوات وكلما صفت الأواني جلت ما فيها من جوهر المعاني فإذا كان عين بصيرتك منطمسة وخيول همتك منحبسة فما لك والتطاول إلى منازل قوم عيون قلوبهم منبجسة، وسرائرهم لأنوار معارفهم من جذوة الغيب مقتبسة فلا تدع بما ليس فيك وحسبك ما يعلم الله منك ويكفيك فينبغي لك أن تقف وقوف الأصاغر وتتأدب بآداب الأكابر هذا كليم الله موسى لما كان طفلاً في حجر تربية الحق سبحانه ما تجاوز حده بل قال :﴿رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ (القصص : ٢٤) فلما بلغ مبلغ الرجال ما رضي بطعام الأطفال بل قال :﴿رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ وهو حجة أهل السنة والجماعة على جواز رؤية الله تعالى فإن موسى اعتقد جوازها حين سألها واعتقاد جواز ما لا يجوز على الله تعالى كفر ومن جوز ذلك على موسى أو على أحد من الأنبياء فهو كافر كما في "التيسير".