﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ﴾ أي : سكن وثبت ﴿فَسَوْفَ تَرَانِى﴾ فسوف تطيق أن تنظر إليّ وإن لم يستقر مكانه فإنك لا تطيق النظر إليّ فإن الجبل مع صلابته لما تأثر من التجلي ولم يطق ذلك بل اندك وتفتت وتلاشى فكيف يطيق الإنسان الذي يدهش عند مشاهدة الأمور الهائلة فكيف عند مشاهدة ذي العظمة والجلال المطلق الذي لا يوصف جلاله وكبرياؤه وهو دليل لنا أيضاً لأنه علق الرؤية باستقرار الجبل وهو ممكن وتعليق الشيء بما هو ممكن يدل على إمكانه كالتعليق بالممتنع يدل على امتناعه ألا ترى أن دخول الكفار الجنة لما استحال علقه بمستحيل قال :﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ (الأعراف : ٤٠) والدليل على أنه ممكن قوله :﴿جَعَلَه دَكًّا﴾ ولم يقل اندك وما أوجده تعالى كان جائزاً أن لا يوجد لأنه مختار في فعله ولأنه تعالى ما أيأسه من ذلك ولا عاتبة عليه ولو كان ذلك محالاً لعاتبه كما عاتب نوحاً عليه السلام بقوله :﴿إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ﴾ حين سأل إنجاء ابنه من الغرق ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ﴾ ظهر له عظمته وتصدى له اقتداره وأمره ومعنى ظهور عظمته واقتداره للجبل تعلقها به وظهور أثرها فيه وإنما حمل على هذا المعنى لأن ظهور ذاته للجماد غير معقول.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٧
قال في "تفسير العيون" : كشف نوره من حجبه قدر ما بين الخنصر والإبهام إذا جمعتهما أي إذا وضعت الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر.
وعن سهل بن سعد الساعدي أن الله أظهر من سبعين ألف حجاب نوراً قدر الدرهم.
وفي "التفسير الفارسي" : يعني (ظاهر كردانيدازنور خود يا ازنور عرش بمقدار سوفار سوزنى).
وقال الشيخ أبو منصور : معنى التجلي للجبل ما قال الأشعري أنه تعالى خلق في الجبل حياة وعلماً ورؤية حتى رأى ربه، وهذا أيضاً فيه إثبات كونه مرئياً.
﴿جَعَلَه دَكًّا﴾ مصدر بمعنى المفعول أي صيره مدكوكاً مفتتاً وإذا حل بالجبل ما حل مع عظم خلقه فما ظنك بابن آدم الضعيف كما في "تفسير الكواشي".
قال بعض الكبار : جعل الله الجبل فداء لموسى ولولا أن موسى كان مدهوشاً لذاب كما ذاب الجبل قالوا عذب إذ ذاك كل ماء، وأفاق كل مجنون، وبرىء كل مريض، وزال الشوك عن الأشجار واخضرت الأرض وأزهرت وخمدت نيران المجوس وخرت الأصنام لوجوههن وانقطعت أصوات الملائكة وجعل الجبل ينهدم وينهال ويضطرب من تحت موسى حتى اندق كله فصار ذرات في الهواء والذر هو الذي يرى إذا دخل الشعاع في الكوى بتلك الكوة.
وفي بعض التفاسير : صار لعظمته ستة أجبل وقعت ثلاثة بالمدينة أحد ورقان ورضوى وثلاثة بمكة ثور وثبير وحراء.
وفي "تفسير
٢٣٤
الحدادي" : فصار ثماني فرق أربع قطع منه وقعن بمكة ثور وثبير وحراء وغار ثور وأربع قطع وقعن بالمدينة أحد ورقان ورضوى والمهراس.
وقال الحسن : صار الجبل ثلاث فرق ساخت فرقة منه في الأرض وطارت فرقة في البحر وطارت فرقة فوقعت بعرفات فهو شاحب مقشعر من مخافة الله تعالى.
وفي "التفسير الفارسي" :(عجب سريست كه كوه بآن عظمت تحمل ديدار نداشت ودل انسانرا بحكم "ولكن ينظر إلى قلوبكم" طاقت آن نظر هست نكته درين آنست كه تجلى بركوه بنظر وهيبت بود وتجلى بردل بنظر رحمت آن نظر كوهرا ويران ساخت واين نظر دلرا معمور شازد).
والإشارة : أن الجبل صورة الجسم الحجابي، والجسم غير مستعد للتجلي ما لم يندك وينحل بالرياضة والفناء وإنما التجلي للروح في مقام القلب والجبل صورة التحيز الكوني والحصر الجسماني ومشهد التجلي غير متحيز والسر فافهم وعليه فابحث كذا في "أسئلة الحكم" :﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ أي : سقط مغشياً عليه من هول ما رأى من عشية الخميس وهو يوم عرفة إلى عشية يوم الجمعة وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٧
وقال قتادة : ميتاً وقول ابن عباس أظهر ؛ لأن الله تعالى قال :﴿فَلَمَّآ أَفَاقَ﴾ ولا يقال للميت أفاق من موته ولكن يقال بعث من موته كما قال في حديث السبعين :﴿ثُمَّ بَعَثْنَـاكُم مِّنا بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ (البقرة : ٥٦) وفي "المثنوي" :
جسم خاك از عشق بر افلاك شد
كوه در رقص آمد والاك شد
عشق جان طور آمد عاشقا
طور مست وخرّ موسى صعقا
قال حضرة الشيخ أفتاده أفندي قدس سره : الجبل المذكور وإن احترق ظاهره ولكن له وجود معنوي كان ذلك لعلاً خالصاً بانعكاس التجلي من موسى ولذلك رآه كاللعلل وكالمه وذلك الجبل يدخل الجنة وإنك ان من الدنيا بسبب كونه مظهراً للتجلي كما أن الكعبة ومسجد المدينة وبيت المقدس تدخل الجنة.
﴿فَلَمَّآ أَفَاقَ﴾ من صعقته.


الصفحة التالية
Icon