وقال في "التأويلات النجمية" :﴿وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَـاتِنَا وَكَلَّمَه رَبُّهُ﴾ يعني : ولما حصل على بساط القرب تتابع عليه كاسات الشراب من صفو الصفات ودارت أقداح المكالمات وأثر فيه لذاذات الكلمات فطرب واضطرب إذ سكر من شراب الواردات وتساكر من سماع الملاطفات في المخاطبات، فطال لسان انبساطه عند التمكن على بساطه وعند استيلاء سلطان الشوق وغلبات دواعي المحبة في الذوق.
﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ قيل : هيهات أنت في بعد الاثنينية منكوب وبحجب جبل الأنانية محجوب وإنك إذا نظرت بك إلي ﴿لَن تَرَانِى﴾ لأنه لا يراني إلا من كنت له بصراً فبي يبصر ﴿وَلَـاكِنِ انْظُرْ﴾ إلى الجبل جبل الأنانية
٢٣٦
﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ﴾ عند التجلي ﴿فَسَوْفَ تَرَانِى﴾ ببصر أنانيتك ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ﴾ جبل أنانيته ﴿جَعَلَه دَكًّا﴾ فانياً كأن لم يكن ﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ بلا أنانية وكان ما كان بعد أن بان ما بان فأشرقت الأرض بنور ربها وجاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٧
قد كان ما كان سراً لا أبوح به
فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر ولو لم يكن جبل أنانية النفس بين موسى الروح وتجلي الرب لطاش في الحال وما عاش ولولا القلب كان خليفته عند الفناء بالتجلي لما أمكنه الإفاقة والرجوع إلى الوجود فافهم جداً ولو لم يكن تعلق الروح بالجسد لما استسعد بالتجلي ولا بالتحلي تفهم إن شاء تعالى :﴿فَلَمَّآ أَفَاقَ﴾ من غشية الأنانية بسطوة تجلى الربوبية ﴿قَالَ﴾ موسى بلا هويته ﴿سُبْحَـاـنَكَ﴾ تنزيهاً لك من خلقك واتصال الخلق بك ﴿تُبْتُ﴾ من أنانيتي ﴿إِلَيْكَ﴾ إلى هويتك بك ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بأنك لا ترى بالأنانية ولا ترى إلا بنور هويتك بك انتهى.
وقال القشيري :﴿وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى﴾ مجيء المشتاقين ومجيء المغلوبين جاء موسى بلا موسى ولم يبق من موسى لموسى وآلاف آلاف رجال قطعوا مسافات وتحملوا مخافات فلم يذكرهم أحد وهذا موسى خطا خطوات وإلى يوم القيامة يقرأ الصبيان ولما جاء موسى لميقاتنا باسطه الحق بالكلام فلم يتمالك أن ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ فإن غلبات الوجد استنطقته بكمال الوصلة من الشهود وقالوا لا يؤاخذ المغلوب بما يقول وقالوا إنه لا يشكر ثم ينكر قال وأشد الخلق شوقاً إلى الحبيب أقربهم من الحبيب هذا موسى وقف في محل المناجاة وحفت به الكرامات وكلمه بلا واسطة ولا جهات ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ كأنه غائب هو شاهد لكن ما ازداد القوم شرباً إلا ازدادوا عطشاً ولا ازدادوا قرباً إلا ازدادوا شوقاً وقال سأل موسى الرؤية بالكلام فأجيب ﴿لَن تَرَانِى﴾ بالكلام وأسر المصطفى في قلبه ما كان يرجوه من تحويل القبلة من ربه فقيل له ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِا فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا﴾ (البقرة : ١٤٤) وقال إنه سأل الله الرؤية فقال :﴿لَن تَرَانِى﴾ وقال للخضر ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا﴾ (الكهف : ٦٦، ٦٧) فصار جوابه لن من الحق ومن الخلق ليبقى موسى بلا موسى ويصفو موسى عن كل نصيب لموسى بموسى وأنشد في معناه فقيل :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٧
أبني أبينا نحن أهل منازل
أبداً غراب البين فينا يزعق والبلاء الذي ورد عليه بقوله تعالى :﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَه فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ جَعَلَه دَكًّا﴾ أشد من قوله :﴿لَن تَرَانِى﴾ لأنه صريح في الرؤية وفي اليأس راحة وقوله :﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَه فَسَوْفَ تَرَانِى﴾ هذا إطماع فيما يمنعه فلما اشتد توقعه جعل الجبل دكاً وكان قادراً على إمساك الجبل لكنه قهر الأحباب وبه سبق الكتاب وفي قوله :﴿انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾ بلاء شديد لموسى لأنه منع عن رؤية مقصوده وأمر برؤية غيره ولو أمر بأن يغمض عينيه ولا ينظر إلى شيء بعده لكان الأمر أسهل عليه ولكنه قيل له ﴿لَن تَرَانِى وَلَـاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾ ثم أشد من ذلك أن الجبل أعطي التجلي ثم أمر موسى عليه السلام بالنظر إلى الجبل الذي قدم عليه في هذا السؤال وهذا صعب شديد ولكن موسى رضي به وانقاد لحكمه وفي معناه أنشدوا :
أريد وصاله ويريد هجري
فأترك ما أريد لما يريد
٢٣٧
وقيل : بل هو لطف به حيث لم يصرح برده بل علله عوناً له على صبره.