والإشارة : أن هارون القلب أخ موسى الروح والأعداء النفس والشيطان والهوى والقوم الظالمون هم الذين عبدوا عجل الدنيا وهم صفات القلب يشير إلى أن صفات القلب تتغير وتتلون بلون صفات النفس ورعوناتها ومن هنا يكون شنشنة الشطار من أرباب الطريقة ورعوناتهم وزلات أقدامهم ولكن القلب من حيث هو هو لا يتغير عما جبل عليه من محبة الله وطلبه وإنما تتغير صفاته كما أن النفس لا تتغير من حيث هي هي عما جبلت عليه من حب الدنيا وطلبها وإنما تتغير صفاتها من الأمارية إلى اللوامية والملهمية والمطمئنية والرجوع إلى الحق ولو وكلت إلى نفسها طرفة عين لعادت المشومة إلى طبعها وجبلتها سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٤٥
﴿قَالَ﴾ موسى وهو استئناف بياني ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِى﴾ أي : ما فعلت بأخي من غير ذنب مقرر من قبله ﴿وَلاخِى﴾ أي : أن فرط في كفهم استغفر عليه السلام لنفسه ليرضي أخاه ويظهر للشامتين رضاه لئلا تتهم به ولأخيه للإيذان بأنه محتاج إلى الاستغفار حيث كان عليه أن يقاتلهم ﴿وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ﴾ بمزيد الأنعام علينا بعد غفران ما سلف منا.
قال الحدادي : أي في جنتك.
﴿وَأَنتَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ﴾ وأنت أرحم بنا منا على أنفسنا ومن آبائنا وأمهاتنا.
حكي أنه اعتقل لسان فتى عن الشهادة حين أشرف على الموت فأخبروا النبي عليه السلام فدخل عليه وعرض الشهادة فاضطرب ولم يعمل لسانه فقال عليه السلام :"أما كان يصلي أما كان يزكى أما كان يصوم؟ قالوا : بلى قال فهل عقّ والديه؟ قالوا : نعم قال هاتوا بأمه فجاءت وهي عجوز عوراء فقال عليه السلام هلا عفوت عنه فقالت : لا أعفو لأنه لطمني ففقأ عيني قال هاتوا بالحطب والنار قالت ما تصنع قال : أحرقه بالنار بين يديك جزاء لما عمل، قالت : عفوت عفوت أللنار حملته تسعة أشهر أللنار أرضعته سنتين، فأين رحمة الأم فعند ذلك انطلق لسانه بالكلمة" والنكتة أنها كانت رحيمة لا رحمانة فللقليل من رحمتها ما جوزت إحراقه بالنار فالله الذي لا يتضرر بجناية العباد كيف يستجيز إحراق المؤمن المواظب على كلمة الشهادة سبعين سنة وهو أرحم الراحمين.
قال الحافظ :
لطف خدا بيشتر ازجرم ماست
نكته سربسته ه دانى خموش
وقال :
دلا طمع مبر از لطف بي نهايت دوست
كه ميرسد همه را لطف بى نهايت او
قال بعض أهل التفسير : إن قابيل لما قتل أخاه هابيل اشتد ذلك على آدم، فقال الله تعالى : يا آدم
٢٤٦
جعلت الأرض في أمرك مرها فلتفعل ما تهوى بمكان ابنك قابيل فقال آدم عليه السلام : يا أرض خذيه فأخذت الأرض قابيل فقال قابيل يا أرض بحق الله أن تمهليني حتى أقول قولي ففعلت فقال يا رب إن أبي قد عصاك فلم تخسف به الأرض فقال الله تعالى نعم ولكنه ترك أمراً واحداً وأنت تركت أمري وأمر أبيك وقتلت أخاك فقال آدم ثانياً يا أرض خذيه فقال قابيل بحرمة محمد عليه السلام أن تمهليني حتى أقول قولي ففعلت فقال : يا رب إن إبليس ترك أمرك وعاداك ولم تخسف به الأرض فما بالي تخسف بي الأرض فأجاب الله تعالى مثل الأولى فقال : إلهي أليس لك تسعة وتسعون اسماً فقال الله تعالى بلى فقال أليس الرحمن الرحيم من جملة ذلك قال : بلى قال : ألست سميت نفسك رحماناً رحيماً لكثرة الرحمة قال : بلى قال : يا رب إن أردت إهلاكي فأخرج هذين الاسمين من بين أسمائك ثم أهلكني لأن أخذ العبد بجريمة واحدة يكون رحمة فأمر الله الأرض حتى خلت سبيله ولم تهلكه فاعتبر إذا كانت رحمته بهذه المرتبة للكافر فما ظنك للمؤمن فينبغي للمقصر أن يرفع حاجته إلى المولى ويستغفر من ذنبه الأخفى والأجلى كي يدخل في الرحمة التي هي الفردوس الأعلى.
قال الحافظ :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٤٥
سياه نامه ترازخود كسى نمى بينم
كونه ون قلمم دوددل بسر نرود
وفي قوله تعالى :﴿رَبِّ اغْفِرْ لِى﴾ الآية إشارة إلى السير في الصفات لأن المغفرة والرحمة من الصفات فيشير إلى أن لموسى الروح ولأخيه هارون القلب استعداد لقبول الجذبة الإلهية التي تدخلهما في عالم الصفات.
﴿وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَا وَأَنتَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ﴾ لأن غيرك من الراحمين عاجز عن إدخال غيره في صفاته وأنت قادر على ذلك لمن تشاء ويدل عليه قوله :﴿يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ﴾ (الشورى : ٨) كذا في "التأويلات النجمية".