والإشارة في الآيات : أن الله تعالى امتحن موسى عليه السلام باختيار قومه ليعلم أن المختار من الخلق من اختاره الله لا الذي اختاره الخلق وأن الله الاختيار الحقيقي لقوله :﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ﴾ (القصص : ٦٨) وليس للخلق الاختيار الحقيقي لقوله :﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ (القصص : ٦٨) ثم استخرج من القوم المختار ما كان موجباً للرجفة والصعقة والهلاك، وهو سوء الأدب في سؤال الرؤية جهاراً وكان ذلك مستوراً عن نظر موسى متمكناً في جبلتهم وكان الله المتولي للسرائر وحكم موسى بظاهر صلاحيتهم فأراه الله أن الذي اختاره يكون مثلك، كقوله تعالى :﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ (طه : ١٣) والذي تختاره يكون كالقوم فلما تحقق لموسى أن المختار من اختاره الله حكم بسفاهة القوم وأظهر الاستكانة والتضرع والاعتذار والتوبة والاستغفار والاسترحام كما قال :﴿فَلَمَّآ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّـاىَا أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ﴾ وفيه إشارة أخرى إلى أن نار شوق الرؤية كما كانت متمكنة في قلب موسى بالقوة، وإنما ظهرت بالفعل بعد أن سمع كلام الله تعالى فإن من اصطكاك زناد الكلام وحجر القلب ظهر شرر نار الشوق فاشتعل منه كبريت اللسان الصدوق وشعلت شعلة السؤال فقال :﴿رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ كذلك كانت نار الشوق متمكنة في أحجار قلوب القوم فباصطكاك زناد سمع الكلام ظهر شرر الشوق فاشتعل منه كبريت اللسان، ولما لم يكن اللسان لسان النبوة صعد منه دخان السؤال الموجب للصعقة والرجفة والسر فيه أن يعلم موسى وغيره أن قلوب العباد مختصة بكرامة إيداع نار المحبة فيها لئلا يظن موسى أنه مخصوص به، ويعذر غيره في تلك المسألة فإنها من غلبات الشوق تطرأ عند استماع كلام المحبوب ولذا قال عليه السلام :"ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه".
وبالأصبعين يشير إلى صفتي الجمال والجلال وليس لغير الإنسان قلب مخصوص بهذه الكرامة وإقامة القلب وإزاغته في أن يجعله مرآة صفات الجمال فيكون الغالب عليه الشوق والمحبة لطفاً ورحمة، وفي أن يجعله مرآة صفات الجلال فيكون الغالب عليه الحرص على الدنيا والشهوة قهراً وعزة فالنكتة فيه أن قلب موسى عليه السلام لما كان مخصوصاً بالاصطفاء للرسالة والكلام دون القوم كان سؤاله لرؤية شعلة نار المحبة مقروناً بحفظ الأدب على بساط القرب بقوله :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٥١
﴿رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ قدم عزة الربوبية وأظهر ذلة العبودية وكان سؤال القوم من القلوب الساهية اللاهية، فإن نار الشوق تصاعدت بسوء الأدب فقالوا :﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ (البقرة : ٥٥) قدموا الجحود والإنكار وطلبوا الرؤية جهاراً فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فشتان بين صعقه موسى وصعقة قومه فإن صعقته كانت صعقة اللطف مع تجلى صفة الربوبية، وإن صعقتهم كانت صعقة القهر عند إظهار صفة العزة والعظمة ولما كان موسى عليه السلام ثابتاً في مقام
٢٥٤
التوحيد كان ينظر بنور الوحدة فيرى الأشياء كلها من عند الله فرأى سفاهة القوم وما صدر منهم من آثار صفة قهره فتنة واختباراً لهم فلما دارت كؤوس شراب المكالمات وسكر موسى بأقداح المناجاة زل قدمه على بساط الانبساط فقال :﴿إِنْ هِىَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ﴾ أي : تزيغ قلب من تشاء بأصبع صفة القهر ﴿وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ﴾ أي : تقيم قلب من تشاء بأصبع صفة اللطف ﴿أَنتَ وَلِيُّنَا﴾ أي : المتولي لأمورنا والناصر في هدايتنا ﴿فَاغْفِرْ لَنَا﴾ ما صدر منا.
﴿وَارْحَمْنَآ﴾ بنعمة الرؤية التي سألناكها.
﴿وَأَنتَ خَيْرُ الْغَـافِرِينَ﴾ أي : خير من يستر على ذنوب المذنبين يعني إنهم يسترون الذنب ولا يعطون سؤلهم، فأنت الذي تستر الذنب وتبدله بالحسنات وتعطي سؤل أهل الزلات ﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ يعني : حسنة الرؤية كما كتبت لمحمد عليه السلام ولخواص أمته هذه الحسنة في الدنيا، وفي الآخرة، يعني : خصنا بهذه الفضيلة في الدنيا ﴿وَفِي الاخِرَةِ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ﴾ رجعنا إليك في طلب هذه الفضيلة بالسر لا بالعلانية وأنت الذي تعلم السر والأخفى وأجابهم الله تعالى سراً بسر وإضماراً بإضمار ﴿قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِه مَنْ أَشَآءُ﴾ أي : بصفة قهري آخذ من أشاء وبقراءة من قرأ من أساء، أي : من أساء في الأدب عند سؤال الرؤية حيث قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة آخذهم على سوء أدبهم فأدبهم بتأديب عذاب الفرقة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٥١


الصفحة التالية
Icon