به وحرم عليهم الصيد وأمروا بتعظيمه فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت كأنها المخاض، والكباش البيض السمان تنتطح لا يرى وجه الماء لكثرتها ولا تأتيهم في سائر الأيام فكانوا على ذلك برهة من الدهر ثم جاءهم إبليس فقال لهم إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضاً سهلة الورود صعبة الصدور ففعلوا فجعلوا يسوقون الحيتان إليها يوم السبت فلا تقدر على الخروج ويأخذونها يوم الأحد وأخذ رجل منهم حوتاً وربط في ذنبه خيطاً إلى خشبة في الساحل، ثم شواه يوم الأحد فوجد جاره ريح السمك فتطلع على تنوره، فقال له : إني أرى الله سيعذبك فلما لم يره عذاب أخذ في السبت القابل حوتين فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم استمروا على ذلك فصادوا وأكلوا وملحوا وباعوا وكانوا نحواً من سبعين ألفاً فكان أهل القرية أثلاثاً، ثلث استمروا على النهي، وثلث ملوا التذكير وشموه وقالوا للواعظين لم تعظون إلخ.
وثلث باشروا الخطيئة فلما لم ينتهوا قال المسلمون نحن لا نساكنكم فباعوا الدور والمساكن وخرجوا من القرية فضربوا الخيام خارجاً منها أو اقتسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب ولعنهم داود عليه السلام فأصبح الناهون ذات يوم فخرجوا من أبابهم وانتشروا لمصالحهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا : لعل الخمر غلبتهم أو أن لهم لشأناً من خسف أو مسخ أو رمي بالحجارة فعلوا الجدر، فنظروا فإذا هم قردة أو صار الشبان قردة والشيوخ خنازير ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القردة أنسابهم من الإنس وهم لا يعرفوها فجعل القرد يأتي نسيبه فيشم ثيابه فيبكي ويقول له نسيبه ألم ننهكم فيقول القرد برأسه بلى ودموعهم تسيل على خدودهم ثم ماتوا عن مكث ثلاثة أيام، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يعش ممسوخ قط أكثر من ثلاثة أيام وعليه الجمهور.
وأما قوله عليه السلام :"فقدت أمة من بني إسرائيل لا يُدْرَى ما فعلت ولا أُرَاها إلا الفار ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربها وإذا وضع لها ألبان غيرها شربتها" وما روي أن النبي عليه السلام أتي بضب فأبى أن يأكله وقال :"لا أدري لعله من القرون التي مسخت" فالجواب عنهما إن ذلك كان قبل أن يوحى إليه أن الله لم يجعل لممسوخ نسلاً فلما أوحى إليه زال عنه ذلك المتخوف وعلم أن الضب والفأر ليسا مما مسخ فعند ذلك أخبرنا بقوله صلى الله عليه وسلّم لمن سأله عن القردة والخنازير أهي مما مسخ فقال :"إن الله لم يهلك قوماً، أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك وثبت" النصوص "بأكل الضب بحضرته وعلى مائدته ولم ينكره" كذا في "حياة الحيوان".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٦٤
وعن مجاهد وإنما مسخت قلوبهم فقط وردت أفهامهم كأفهام القردة وهذا قول تفرد به عن جميع المسلمين.
يقول الفقير : مسخ القلب مشترك بين عصاة جميع الأمم وعادة الله تعالى في النبوة الأولى تعجيل عقوبة الدنيا على أقبح وجه وأفظعه ولا عقوبة أدهى من تبديل الصورة الحسنة الإنسانية إلى صورة أخس الحيوانات، وهي صورة القردة والخنازير القبيحة نعم مسخ القلب والمعنى سبب لمسخ القالب والصورة نعوذ بالله.
وعن الحسن : وايم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم ولكن الله جعل ذلك موعداً والساعة أدهى وأمر.
قال أنس بن مالك : عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه سئل هل في أمتك خسف؟ "قال
٢٦٦
نعم" قيل : ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال :"إذا لبسوا الحرير واستباحوا الزنى وشربوا الخمور وطففوا المكيال والميزان واتخذوا القينات والمعازف وضربوا بالدفوف واستحلوا الصيد في الحرم".
والإشارة : أن القرية هي قرية الجسد الحيواني على شاطىء بحر البشرية وأهل قرية الحس الصفات الإنسانية وهي على ثلاثة أصناف.
منها صنف روحاني كصفات الروح، وصنف قلبي كصفات القلب، وصنف نفساني كصفات النفس الأمارة بالسوء وكل قد نهوا عن صيد حيتان الدواعي البشرية في سبت محارم الله، فصنف أمسك عن الصيد ونهى عنه وهو الصفات الروحانية وصنف أمسك ولم ينه وهو الصفات القلبية، وصنف انتهك الحرمة وهو الصفات النفسانية.
قال حضرة شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة : يوم طور النفس الأمارة بالسوء يوم السبت لانقطاع أهله باتباع الطاغوت والجبت وشهره شهر المحرم لحرمانه من القربة والنيل والوصلة ونجمه القمر وفلكه فلك السماء الدنيا وآيته قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (الحشر : ١٨) انتهى وتتوفر الدواعي البشرية فيما حرم الله بإغراء الشيطان وتزيينه لأن الإنسان حريص على ما منع ولا يرغب فيما لم يحرم الله فمن كان الغالب عليه صفات الروح وقهر النفس وتبديل صفاتها بالتزكية والتحلية فإنه من أهل النجاة وأرباب الدرجات وأصحاب القربات، ومن كان الغالب عليه النفس وصفاتها فإنه من أهل الهلاك وأرباب الدركات وأصحاب المباعدات.
وفي "المثنوي" :


الصفحة التالية
Icon