﴿وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ﴾ النتق : قلع الشيء من موضع والجبل هو الطور الذي سمع موسى كلام الله وأعطى الألواح وهو عليه أو جبل من جبال فلسطين، أو الجبل الذي كان عند بيت المقدس وفوقهم منصوب بنتقنا باعتبار تضمنه لمعنى رفعنا، كأنه قيل رفعنا الجبل فوق بني إسرائيل بنتقه وقلعه من مكانه فالنتق من مقدمات الرفع وسبب لحصوله.
﴿كَأَنَّه ظُلَّةٌ﴾ أي : سقيفة وهي كل ما أظلك بالفارسية (سايبان) ﴿وَظَنُّوا﴾ أي : تيقنوا ﴿أَنَّه وَاقِعُا بِهِمْ﴾ أي : ساقط عليهم لأن الجبل لا يثبت في الجو ولأنهم كانوا يوعدون به على تقدير عدم قبولهم أحكام التوراة.
روي أن موسى عليه السلام لما أتى بني إسرائيل بالتوراة وقرأها عليهم وسمعوا ما فيها من التكاليف الشاقة أبوا أن يقبلوها ويتدينوا بما فيها، فأمر الله الجبل فانقلع من أصله حتى قام على رؤوسهم بحيث حاذى معسكرهم جميعاً ولم يبق منهم أحد إلا والجبل فوقه وكان معسكرهم فرسخاً في فرسخ، وقيل لهم إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجداً على جانبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل خوفاً من سقوطه، فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلا على جانبه الأيسر، ويقولون هي السجدة التي رفعت بها عنا العقوبة فقبلوها جبراً قبل كل من أتى بشيء جبراً ينكص على عقبيه حين يجد فرصة، كذلك أهل التوراة لما قبلوها جبراً ما لبثوا حتى شرعوا في تحريفها.
﴿خُذُوا﴾ على إضمار القول، أي : قلنا خذوا ﴿مَا فِيهِ﴾ من الكتاب ﴿بِقُوَّةٍ﴾ بجد وعزم على تحمل مشاقه وهو حال من الواو.
﴿وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾ بالعمل ولا تتركوه كالمنسي.
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ بذلك قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق.
وفي الآية : إشارة إلى أن الإنسان لو وكل إلى نفسه وطبيعته لا يقبل شيئاً من الأمور الدينية طبعاً ولا يحمل أثقاله قطعاً إلا أن يعان على القبول والحمل بأمر ظاهر أو باطن، فيضطر إلى القبول، والحمل فالله تعالى أعان أرباب العناية حتى حملوا أثقال المجاهدات والرياضات وأخذوا ما آتاهم الله بقوة منه لا بقوتهم وإرادتهم.
وفي "المثنوي" :
جشمها وكوشهارا بسته اند
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٦٩
جزمر آنهاراكه ازخود رسته اند
٢٧١
جز عنايت كه كشايد شم را
حر محبت كه نشايد خشم را
جهد بي توفيق خودكس را مباد
درجهان الله أعلم بالرشاد
قال حضرة الشيخ أفتاده أفندي قدس سره : مخاطباً لحضرة الهدايي إن كثيراً قد اجتهدوا ثلاثين سنة فلم يتيسر ما حصل لك، فقال الهدايى : إن بابنا الذي نخدم فيه أعلى مما خدموا فينبغي أن تكون لنا العناية بهذا القدر فتبسم حضرة الشيخ يحكي أن أبا يزيد البسطامي لم يأكل البطيخ الأخضر زماناً لعدم وقوفه على أن النبي عليه السلام بأي وجه قطعه والشمس التبريزي قال إن البسطامي كان في الحجاب بسبب قصة البطيخ.
قال أفتاده أفندي : كأنه أراد أن قوة زهد البسطامي جعلته محجوباً ولكن التحقيق أن كلاً منهما على الكمال غايته أن أبا يزيد البسطامي وصل من طريق الرياضة، والشمس التبريزي وصل من طريق المعرفة والطرق إلى الله كثيرة ولكن طريق الرياضة أحكم وأثبت فصاحب الزهد الغالب وإن لم ينفتح له الطريق زماناً، ولكنه إذا انفتح يكون دفعة وبذلك لم يقدر الحلاج على ضبطه لكماله في الشريعة والطريقة فظهر حقيقة الحال على الأسلوب المذكور فعناية الله تعالى تهدي أولاً إلى القبول ثم إلى الزهد والرياضة ثم إلى العشق والحالة ثم إلى عالم الحقيقة، والطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق فكل أحد يصل إلى الله تعالى من طريق وهي غير متعينة وليست هي كما يزعمها الناس ؛ إذ ليست على الأسلوب الظاهر قال الله تعالى :﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ (البقرة : ١٨٩) فالمراد بها الطريق المناسب لكل أحد وطريق الوصول هو التقوى والذكر.
واعلم : أن الكتب الإلهية إنما جاءت رحمة من الله تعالى وعناية وكذا الأنبياء عليهم السلام فمن اتبعهم وقبل ما جاؤوا به فقد نجا من العقبات وخرج من محبس هذا العالم وطار إلى الملكوت الأعلى وللهمة تأثير عظيم.
ذكر أن في الهند قوماً إذا اهتموا بشيء اعتزلوا عن الناس وصرفوا همتهم إلى ذلك الشيء فيقع على وفق اهتمامهم.
ومن هذا القبيل ما ذكر أن السلطان محمود غزا بلاد الهند وكانت فيها مدينة كلما قصدها مرض فسأل عن ذلك فقيل له : إن عندهم جمعاً من الهند إذا صرفوا همتهم إلى ذلك يقع المرض على وفق ما اهتموا، فأشار إليه بعض أصحابه بدق الطبول ونفخ البوقات الكثيرة لتشوش همتهم ففعل ذلك فزال المرض واستخلصوا المدينة فأنت أيها السالك بضرب طبول الذكر وجهره وتشوش همّ النفس وخواطرها الفاسدة تخلص مدينة القلب من يدها بعناية الله تعالى وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سلم من صلاته قال بصوته الأعلى "لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".


الصفحة التالية
Icon