جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٧٣
وقال في "التأويلات النجمية" : في الآية إشارة إلى أن أخذ المخلوقين يكون أخذ الشيء الموجود من الشيء الموجود وأن أخذ الخالق تارة هو أخذ الشيء المعدوم من العدم كقوله :﴿خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْـاًا﴾ (مريم : ٩) وتارة هو أخذ الشيء المعدوم من الشيء المعدوم كقوله :﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنا بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ (الأعراف : ١٧٢) فكان بنو آدم معدومين وظهورهم معدومين وذرياتهم معدومين فأخذ بكمال قدرته ذرياتهم المعدومة إلى يوم القيامة من ظهورهم المعدومة من بني آدم المعدومين، فأوجدهم الله في تلك الحالة وأعطاهم وجوداً مناسباً لتلك الحالة فلما استخرج الله من ظهر آدم ذرات بنيه، واستخرج من ظهورهم ذرات ذرياتهم المودعة فيها إلى يوم القيامة والأرواح في تلك الحالة جنود مجندة في ثلاثة صفوف : الصف الأول : أرواح السابقين، والصف الثاني : أرواح أصحاب الميمنة، والصف الثالث : أرواح أصحاب المشأمة تنورت الذرات بأنوار أرواحها ولبست تلك الذرات الموجودة بالوجود الرباني لباس الوجود الروحاني ولبست الأسماع والأبصار والأفئدة لباساً روحانياً، ثم خاطبهم الحق بخطاب ألست بربكم فسمع السابقون بسمع نوراني روحاني خطابه وشاهدوا بأبصار نورانية جماله وأحبوه بأفئدة روحانية ربانية نورانية بنور المحبة للقائه، فأجابوه على المحبة فقالوا : بلى أنت ربنا المحبوب والمعبود شهدنا، أي : شاهدنا محبوبيتك وربوبيتك فأخذ مواثيقهم أن لا يحبوا ولا يعبدوا إلا إياه، وسمع أصحاب الميمنة بسمع روحاني خطابه وطالعوا بأبصار
٢٧٥
روحانية جلاله وآمنوا بأفئدة ربانية إلهية، فأجابوه على العبودية وقالوا : بلى أنت ربنا المعبود سمعنا وأطعنا فأخذ مواثيقهم أن لا يعبدوا إلا إياه، وسمع أصحاب المشأمة خطابه بسمع روحاني من وراء حجاب العزة، وفي آذانهم وقر الغرة وعلى أبصارهم غشاوة الشقاوة وعلى أفئتدهم ختم المحنة، فأجابوه على الكلفة، وقالوا : بلى أنت ربنا سمعنا كرهاً فأخذ مواثيقهم على العبودية، فالآن يرجع التفاوت بين الخليقة في الكفر والإيمان إلى تفاوت الاستعدادات الروحانية والربانية فافهم جداً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٧٣
ثم اعلم : أنا لا نجد أن الله تعالى ذكر أنه كلم أحداً وهو بعد في العدم إلا بني آدم فإنه كلمهم وهم غير موجودين وأجابوه وهم معدومون فجرى بالجود ما جرى لا بالوجود فهذا بدايتهم، وإلى هذا تنتهي نهايتهم بأن يكون الله تعالى هو سمعهم وأبصارهم وألسنتهم كما قال :"كنت له سمعاً وبصراً ولساناً فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق" وإلى هذا أشار الجنيد حين سئل ما النهاية؟ قال : الرجوع إلى البداية انتهى كلام "التأويلات النجمية" باختصار وقد عرفت من هذا أن أهل الحقيقة جار في هذا المسلك على حقيقته ؛ لأن من غلب روحانيته على جسمانيته يرى الأمر سهلاً ولا يصعب عليه شيء خلافاً لأهل الظاهر، والمعتزلة : أنكروا هذه الرواية وقالوا إن البينة شرط لحصول الحياة والعقل والفهم فتلك الذريات المأخوذة من ظهور بني آدم لا يكون أحد منهم عالماً فاهماً عاقلاً إلا إذا حصل له قدر من الجسامة والبنية اللحمية والدموية وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجود من أول تخليق آدم إلى قيام الساعة لا تحويهم عرصة الدنيا، فكيف يمكن أن يقال إنهم حصلوا بأسرهم دفعة واحدة في صلب آدم فانظر إلى هذا القول الضعيف والرأي السخيف، ولو قلت لهم هل يستطيع الله أن يجعل السموات والأرضين والجبال والشجر والماء في بيضة من غير أن يزيد في البيضة شيئاً ومن غير أن ينقص من هذا شيئاً؟ لقالوا : لا والعياذ بالله فعليك برعاية عهد ألست حتى ينكشف لك ما هو مستور عنك وعن أمثالك وينجلي الغيب كالشمس في مرآة بالك فتنظر كيف الصورة والمعنى والظهور والخفاء.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٧٣
﴿وَاتْلُ﴾ اقرأ يا محمد ﴿عَلَيْهِمْ﴾ أي : على اليهود ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى﴾ أي : خبره الذي له شأن وخطر فإن النبأ خبر عن أمر عظيم ومعنى آتيناه آياتنا، أي علمناه دلائل ألوهيتنا ووحدانيتنا وفهمناه تلك الدلائل وفيه أقوال، والأنسب بمقام توبيخ اليهود ببهتانهم أنه أحد علماء بني إسرائيل كما في "الإرشاد" أو هو بلعم بن باعورا كما في "منهاج العابدين" للإمام الغزالي وقولهم إنه من الكنعانين الجبارين إنما هو لكونه ساكناً في دارهم والمرء ينسب إلى منشئه ومولده كما هو اللائح فافهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٧٦