والأسلم في تقرير القصة ما ذكره الحدادي في "تفسيره" : نقلاً عن ابن عباس وابن مسعود حيث قال كان عابداً من عباد بني إسرائيل وكان في المدينة التي قصدها موسى عليه السلام وكان أهل تلك المدينة كفاراً، وكان عنده اسم الله الأعظم فسأله ملكهم أن يدعو على موسى بالاسم الأعظم ليدفعه عن تلك المدينة، فقال لهم : دينه وديني واحد وهذا شيء لا يكون وكيف أدعو عليه وهو نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون، وأنا أعلم من الله ما أعلم، وإني إن فعلت ذلك أذهبت دنياي وآخرتي فلم يزالوا به يفتنونه بالمال والهدايا حتى فتنوه
٢٧٦
فافتتن، قيل : كان لبلعم امرأة يحبها ويطيعها فجمع قومه هدايا عظيمة فأتوا بها إليها وقبلتها، فقالوا لها قد نزل بنا ما ترين فكلمي بلعم في هذا، فقالت لبلعم : إن لهؤلاء القوم حقاً وجواراً عليك وليس مثلك يخذل جيرانه عند الشدائد وقد كانوا محسنين إليك وأنت جدير أن تكافئهم وتهتم بأمرهم، فقال لها : لولا أني أعلم أن هذا الأمر من عند الله لأجبتهم فلم تزل به حتى صرفته عن رأيه، فركب أتاناً له متوجهاً إلى الجبل ليدعو على موسى فما سار على الأتان إلا قليلاً فربضت فنزل عنها فضربها حتى كاد يهلكها فقامت فركبها فربضت فضربها فأنطقها الله تعالى، فقالت : يا بلعم ويحك أين تذهب ألا ترى إلى هؤلاء الملائكة أمامي يردونني عن وجهي، فكيف أريد أن تذهب لتدعو على نبي الله وعلى المؤمنين فخلى سبيلها وانطلق حتى وصل إلى الجبل وجعل يدعو فكان لا يدعو بسوء إلا صرف الله به لسانه على قومه ولا يدعو بخير إلا صرف الله به لسانه إلى موسى، فقال له قومه : يا بلعم إنما أنت تدعو علينا وتدعو له، فقال هذا والله الذي أملكه وأنطق الله به لساني ثم امتد لسانه حتى بلغ صدره، فقال لهم قد ذهبت والله مني الآن الدنيا والآخرة فلِمَ يبق إلا المكر والحيلة فسأمكر لكم واحتال، حَلّوا النساء وزينوهن وأعطوهن الطيب وأرسلوهن إلى العسكر، وائمروهن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم ففعلوا فلما دخلت النساء المعسكر مرت امرأة منهم برجل من عظماء بني إسرائيل، فقام إليها وأخذ بيدها حين أعجبته بحسنها، ثم أقبل بها إلى موسى، وقال له : إني لأظنك أن تقول هذه حرام قال : نعم هي حرام عليك لا تقربها، قال فوالله لا نطيعك في هذا ثم دخل بها قبة فوقع عليها فأرسل الله على بني إسرائيل الطاعون في الوقت وكان فخاض بن العيزار صاحب أمر موسى رجلاً له بسطة في الخلق وقوة في البطش وكان غائباً حين صنع ذلك الرجل بالمرأة ما صنع فجاء والطاعون يجوس في بني إسرائيل، فأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ثم دخل على القبة فوجدهما متضاجعين فدفهما بحربته حتى انتظمهما بها جميعاً فخرج بهما يحملهما بالحربة رافعاً بهما إلى السماء والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه وأسند الحربة إلى لحيته وجعل يقول : اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك فرفع الطاعون من حينئذٍ عنهم فحسب من هلك من بني إسرائيل في ذلك الطاعون فوجدهم سبعين ألفاً في ساعة من نهار وهو ما بين أن زنى ذلك الرجل بها إلى أن قتل ثم إن موسى عليه السلام أفتاه يوشع بن نون حاربوا أهل تلك البلدة وغلبوهم وقتلوا منهم وأسروا وأتوا ببلعم أسيراً فقتل فجاؤوا بما قبل من العطايا الكثيرة وغنموها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٧٦
﴿فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ أي : من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة والحية ولم يخطرها بباله أصلاً.
﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَـانُ﴾ أتبع وتبع بمعنى واحد كاردف وردف.
والمعنى : أن الشيطان كان وراءه طالباً لإضلاله وهو يسبقه بالإيمان والطاعة لا يدركه الشيطان ثم لما انسلخ من الآيات لحقه وأدركه.
﴿فَكَانَ﴾ (س كشت آن داننده آيات) أي : فصار ﴿مِنَ الْغَاوِينَ﴾ من زمرة الضالين الراسخين في الغواية بعد أن كان من المهتدين.
والغي يذكر بمعنى الهلاك ويذكر بمعنى الخيبة وفي "القاموس" غوى ضل.
قال الإمام الغزالي : كان بلعم بن باعورا بحيث إذا
٢٧٧


الصفحة التالية
Icon