نظر رأى العرش ولم يكن له إلا زلة واحدة مال إلى الدنيا وأهلها ميلة واحدة ولم يترك لولي من أوليائه حرمة واحدة فسلبه معرفته وكان في أول أمره بحيث يكون في مجلسه اثنا عشر ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه ثم صار بحيث كان أول من صنف كتاباً أن ليس للعالم صانع نعوذ بالله من سخطه انتهى، فلا يأمن السالك المحق مكر الله، ولو بلغ أقصى مقامات الأنبياء والمرسلين فلا يغلق على نفسه أبواب المجاهدات والرياضات ومخالفات النفس وهواها في كل حال كما كان حال النبي عليه السلام والأئمة الراشدين والصحابة والتابعين وأئمة السلف والمشايخ المتقدمين ولا يفتح على نفسه التنعم والتمتع الدنيوي في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب والمسكن لأنه كماتعالى في مكامن الغيب للسعداء ألطافاً خفية مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كذلك له فيها بلايا لهم، فليحترز السالك الصادق بل البالغ الواصل والكامل الحاذق من أن يتعرض لتلك البلايا بالتوسع في الدنيا والتبسط في الأحوال وتتبع الهوى كما في "التأويلات النجمية".
قال الكاشفي (شيخ الإسلام فرمود تاباد تقدير ازكجا برآيد وه بوالعجبي نما يدا كراز جانب فضل وزد زنار بهرام كبر راكمر عشقبازى راه دين كرداند واكراز طرف عدل وزد توحيد بلعم را برانداخته باسك خسيس برابرى دهدى).
انرا برى از صومعه بردير كبران افكني
وين راكشى ازبتكده سر حلقه مردان كنى
ون ورا دركا توعقل زبونراكى رسد
فرمان ده مطلق تويى حكمي كه خواهى آن كنى
﴿وَلَوْ شِئْنَا﴾ رفعه ﴿لَرَفَعْنَـاهُ﴾ إلى منازل الأبرار من العلماء، ﴿بِهَآ﴾ أي : بسبب تلك الآيات وملازمتها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٧٦
وقال بعضهم : هي صحف إبراهيم عليه السلام وكان بلعم قد قرأها أو اللمات التي اشتملت على الاسم الأعظم.
﴿وَلَـاكِنَّه أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ﴾ أي : مال إلى الدنيا فلم نشأ رفعه لمباشرته لسبب نقيضه، والإخلاد إلى الشيء الميل إليه مع الاطمئنان عبر عن الدنيا بالأرض لأن ما فيها من العقار والرباع كلها أرض وسائر متاعها مستخرج من الأرض والإخلاد إلى الأرض كناية عن الإعراض عن ملازمة الآيات والعمل بمقتضاها، والكناية أبلغ من التصريح.
﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ في إيثار الدنيا واسترضاه قومه فانحط أبلغ انحطاط وارتد أسفل سافلين وإلى ذلك أشير بقوله تعالى :﴿فَمَثَلُهُ﴾ أي : فصفته التي هي مثل في الخسة والرذالة، والمثل لفظ مشترك بين الوصف وبين ما يضرب مثلاً والمراد ههنا الوصف كذا في "البحر" ﴿كَمَثَلِ الْكَلْبِ﴾ أي : كصفته في أخس أحواله وهو ﴿إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ﴾ (اكر حمله كنى برو وبراني اورا) والخطاب لكل أحد ممن له حظ من الخطاب فإنه أدخل في إشاعة فظاعة حاله ﴿يَلْهَثْ﴾ اللهث ادلاع اللسان أي إخراجه بالنفس الشديد.
﴿أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾ أي : يلهث دائماً سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ولم يتعرض له فإن في الكلاب طبعاً لا تقدر على نفض الهواء السخن وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبها وانقطاع فؤادها بخلاف سائر الحيوانات، فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء، فكما أن الكلب دائم اللهث ضيق الحال فكذا هذا الكافر إن زجرته
٢٧٨
ووعظته لم ينزجر ولم يتعظ، وإن تركته لم يهتد ولم يعقل فهو متردد إلى ما لا غاية وراءه في الحسة والدناءة فانظر حب الدنيا وشؤمها ماذا يجلب للعلماء خاصة، وفي الحديث :"من ازداد علماً ولم يزدد هدىً، لم يزدد من الله تعالى إلا بعداً" والنعمة إنما تسلب ممن لا يعرف قدرها وهو الكفور الذي لا يؤدي شكراً، وكما أن الكلب لا يعرف الإكرام من الإهانة والرفعة والشرف من الحقارة، وإنما الكرامة كلها عنده في كسرة يطعمها أو عراق مائدة يرمى إليه سواء تقعده على سرير معك، أو في التراب والقذر فكذا العبد السوء لا يعرف قدر الكرامة ويجهل حق النعمة فينسلخ عن لباس الفضل والكرم ويرتدي برداء القهر والمكر.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٧٦
قال في "التأويلات النجمية" : فلا يغترن جاهل مفتون بأن اتباع الهوى لا يضره فإن الله تعالى حذر الأنبياء عن اتباع الهوى وأوعدهم عليه بالضلال كقوله :﴿يادَاوُادُ إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (ص : ٢٦) قال الحافظ :
مباش عره بعلم وعمل فقيه مدام
كه هيكس زقضاى خداى جان نبرد


الصفحة التالية
Icon