ورووا عن أبي الدرداء أنه قال :"إنعباداً يقال لهم الأبدال لم يبلغوا ما بلغوا بكثرة الصوم والصلاة والتخشع وحسن الحلية، ولكن بلغوا بصدق الورع وحسن النية وسلامة الصدور والرحمة لجميع المسلمين اصطفاهم الله بعلمه واستخلصهم لنفسه وهم أربعون رجلاً على مثل قلب إبراهيم لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه".
واعلم : أنهم لا يسبون شيئاً ولا يلعنونه ولا يؤذون من تحتهم ولا يحقرونه ولا يحسدون من فوقهم أطيب الناس خبراً وألينهم عريكة وأسخاهم نفساً لا تدركهم الخيل المجراة ولا الرياح العواصف فيما بينهم وبين ربهم إنما قلوبهم
٢٨٦
تصعد في السقوف العلى ارتياحاً إلى الله تعالى في استباق الخيرات أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون انتهى كلامه في "روض الرياحين" للإمام اليافعي رحمه الله تعالى.
واعلم : أن أهل الحق إنما نالوا ما نالوا بهدايتهم للناس وعدلهم فيما بين الخلق بعد ما كانوا مهديين وعادلين في أنفسهم.
وروي عن عبد الله بن المبارك أنه كان يتجر ويقول : لولا خمسة ما اتجرت السفيانان، وفضيل، وابن السماك، وابن علية ليصلهم فقدم سنة فقيل له قد ولي ابن علية القضاء فلم يأته ولم يصله بشيء فأتاه ابن علية فلم يرفع رأسه إليه ثم كتب إليه ابن المبارك :
يا جاعل العلم له بازياً
يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها
بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنوناً بها بعدما
كنت دواء للمجانين
أين رواياتك في سردها
لترك أبواب السلاطين
إن قلت أكرهت فذا باطل
زلّ حمار العلم في الطين فلما وقف إسماعيل بن علية على الأبيات ذهب إلى الرشيد ولم يزل به إلى أن استعفاه من القضاء فأعفاه، ونعم ما قيل :
أبو حنيفة قضا نكرد وبمرد
تو بميرى اكر قضا نكنى
وقيل :
اعدل تكن من صروف الدهر ممتنعاً
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٨٠
فالصرف ممتنع للعدل في عمر والعدل : من أسماء الله تعالى ومعناه العادل، وهو الذي يصدر منه فعل العدل المضاد للجور والظلم ولن يعرف العادل من لم يعرف عدله ولا يعرف عدله من لم يعرف فعله وحظ العبد من العدل لا يخفى وأول ما عليه من العدل في صفات نفسه هو أن يجعل الشهوة والغضب أسيرين تحت إشارة العقل والدين ومهما جعل العقل خادماً للشهوة والغضب فقد ظلم نفسه هذا جملة عدله في نفسه وتفصيله مراعاة حدود الشرع كله وعدله في كل عضو أن يستعمله على الوجه الذي أذن الشرع فيه.
وأما عدله في أهله وذويه، ثم في رعيته إن كان من أهل الولاية فلا يخفى وربما ظن أن الظلم هو الإيذاء والعدل هو إيصال النفع إلى الناس وليس كذلك بل لو فتح الملك خزائنه المشتملة على الأسلحة والكتب وفنون الأموال ولكن فرق الأموال على الأغنياء ووهب الأسلحة للعلماء وسلم إليهم القلاع ووهب الكتب للأجناد وأهل القتال وسلم إليهم المساجد والمدارس فقد نفع ولكنه قد ظلم وعدل عن العدل إذ وضع كل شيء في غير موضعه اللائق به ولو آذى المريض بسقي الأدوية والحجامة والفصد بالإجبار عليه وآذى الجناة بالعقوبة قتلاً وقطعاً وضرباً كان عادلاً لأنه وضعها في موضعها وحظ العبد ديناً من هذا الوصف أنه لا يعترض على الله تعالى في تدبيره وحكمه وسائر أفعاله وافق مراده أو لم يوافق لأن كل ذلك عدل وهو كما ينبغي وعلى ما ينبغي ولو لم يفعل ما فعله لحصل منه أمر آخر هو أعظم ضرراً مما حصل كما أن المريض لو لم يحتجم أبصر ضرراً يزيد على ألم الحجامة وبهذا يكون الله تعالى عدلاً والإيمان يقطع الإنكار والاعتراض ظاهراً وباطناً.
وتمامه أن لا يسب الدهر ولا ينسب الأشياء إلى الفلك ولا يعترض عليه كما جرت به العادة بل يعلم أن كل ذلك أسباب مسخرة وأنها رتبت ووجهت
٢٨٧
إلى المسببات أحسن ترتيب وتوجيه بأقصى وجوه العدل واللطف كذا في "المقصد الأقصى في شرح معاني أسماء الله الحسنى" للإمام الغزالي عليه رحمة الملك المتعالي.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٨٠
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتنا﴾ إضافة الآيات إلى نون العظمة لتشريفها واستعظام الأقدام على تكذيبها أي بآياتنا التي هي معيار الحق ومصداق الصدق والعدل.
﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم﴾ أي : سنقربهم البتة إلى الهلاك على التدريج وأصل الاستدراج إما الاستصعاد وهو النقل من سفل إلى علو درجة درجة.
وإما الاستنزال وهو النقل من علو إلى سفل كذلك والأنسب هو النقل إلى أعلى درجات المهالك ليبلغ أقصى مراتب العقوبة والعذاب.
﴿مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾ صفة لمصدر الفعل المذكور، أي : سنستدرجهم استدراجاً كائناً من حيث لا يعلمون أنه كذلك، بل يحسبون أنه إكرام من الله تعالى وتقريب منه أو لا يعلمون ما نريد بهم وذلك أن يتواتر عليهم النعم فيظنوا أنها لطف من الله بهم فيزدادوا بطراً وانهماكاً في الغي إلى أن تحق عليهم كلمة العذاب على أفظع حال وأشنعها.
مده خودرا فريب ازرنك وبويم
كه هست از خنده من كريه آميز
قال الحافظ :
بمهلتي كه سهرت دهد ز راه مرو


الصفحة التالية
Icon