﴿وَجَعَلَ﴾ أنشأ ﴿مِنْهَآ﴾ أي : من جنس تلك النفس الواحدة.
﴿زَوْجَهَا﴾ حواء أو من جسدها لما يروى أن الله تعالى خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم عليه الصلاة والسلام والأول هو الأنسب إذ الجنسية هي المؤدية إلى الغاية الآتية لا الجزئية.
﴿لِيَسْكُنَ﴾ تلك النفس والتذكير باعتبار المعنى يعني : آدم ﴿إِلَيْهَا﴾ أي : إلى الزوج وهي حواء أي ليستأنس بها ويطمئن إليها اطمئناناً مصححاً للازدواج.
﴿فَلَمَّا تَغَشَّـاـاهَا﴾ لم يقل تغشتها باعتبار آدم أيضاً.
والتغشي والتغشية التغطية بالفارسي (يزى بركسى وشانيدن) كنى به عن الجماع لأن الرجل يغطى المرأة ويسترها حال الوقاع لاستعلائه عليها ﴿حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا﴾ في مبادي الأمر فإنه عند كونه نطفة أو علقة أو مضغة أخف عليها بالنسبة إلى ما بعد ذلك من المراتب فانتصاب حملاً على المصدرية أو حملت محمولاً خفيفاً وهو ما في البطن من النطفة ونفس الجنين فانتصابه على المفعول به كقوله حملت زيداً وهو الظاهر والمشهور أن الحمل بالفتح ما كان في البطن أو على رأس الشجر وبالكسر ما كان على ظهر إنسان أو على الدابة.
﴿فَمَرَّتْ بِهِ﴾ أي : فاستمرت به كما كان قبل حيث قامت وقعدت وأخذت وتركت ولم تكترث بحملها فمرت من المرور بمعنى الذهاب والمضي لا من المرّ بمعنى الاجتياز والوصول يقال مرّ عليه وبه يمر مراً أي اجتاز ومر يمر مراً ومروراً، أي : ذهب واستمر مثله والسين فيه للطلب التقديري كما في استخرجته ﴿فَلَمَّآ أَثْقَلَت﴾ أي : صارت ذا ثقل بكبر الولد في بطنها ﴿دَّعَوَا اللَّهَ﴾ أي : آدم وحواء عليهما السلام لما دهمهما أمر لم يعهداه ولم يعرفا مآله فاهتماماً به وتضرعا إليه تعالى ﴿رَبُّهُمَآ﴾ أي : مالك أمرهما الحقيق بأن يخص به الدعاء ومتعلق الدعاء محذوف أي دعواه تعالى في أن يؤتيهما ولداً صالحاً ووعداً بمقابلته الشكر وقالا ﴿لَـاـاِنْ ءَاتَيْتَنَا صَـالِحًا﴾ أي : ولداً سويّ الأعضاء أو صالحاً في أمر الدين.
٢٩٤
﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـاكِرِينَ﴾ لك على هذه النعمة المجددة ووجه دعائهما بذلك أن آدم رأى حين أخذ الميثاق على ذريته أن منهم سويّ الأعضاء وغير السويّ وأن منهم التقي وغير التقي فسألا أن يكون هذا الولد سويّ الأعضاء أو تقياً نقياً عن المعصية فلما أعطاهما صالحاً شكرا لأنهما ليسا بحيث يعدان من أنفسهما بذلك ثم لا يفعلان ذلك يقال إن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى ويقال ولدت لآدم في خمسمائة بطن ألف ولد.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٤
ثم شرع في توبيخ المسلمين بقوله :
﴿فَلَمَّآ ءَاتَـاـاهُمَا صَـالِحًا﴾ أي : فلما أعطى أولادهما المشركين البالغين مبلغ الوالد ولداً صالحاً سويّ الأعضاء ﴿جَعَلا﴾ أي : جعل هذان الأبوان ﴿لَهُ﴾ أي : تعالى ﴿شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَـاـاهُمَا﴾ بأن سميا أولادهما بعبد العزى وعبد مناف ونحو ذلك وسجدا للأصنام شكراً على هذه النعمة والأظهر تقرير أبي السعود حيث قال في "تفسيره" :﴿فَلَمَّآ ءَاتَـاـاهُمَا صَـالِحًا﴾ أي : لما آتاهما ما طلباه أصالة واستتباعاً من الولد وولد الولد ما تناسلوا جعلا أي جعل أولادهما له تعالى :﴿شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَـاـاهُمَا﴾ أي : فيما أتى أولادهما من الأولاد ففي الكلام حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وإلا لزم نسبتهما أي آدم وحواء إلى الشرك وهما بريئان منه بالاتفاق ويدل على الحذف المذكور صيغة الجمع في قوله تعالى :﴿فَتَعَـالَى اللَّهُ﴾ (س بزركست خداى تعالى واك) ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي : عن إشراكهم وهو تسميتهم المذكورة ولو كان المراد بالآية آدم وحواء لقال عما يشركان.
﴿أَيُشْرِكُونَ﴾ به تعالى ﴿مَا لا يَخْلُقُ شَيْـاًا﴾ أي : لا يقدر على أن يخلق شيئاً من الأشياء أصلاً ومن حق المعبود أن يكون خالقاً لعابده.
﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ عطف على ما لا يخلق يعني الأصنام وإيراد الضميرين بجمع العقلاء مبني على اعتقاد الكفار فيها ما يعتقدونه في العقلاء وكانوا يصورونها على صورة من يعقل ووصفها بالمخلوقية بعد وصفها بنفي الخالقية لإبانة كمال منافاة حالها لما اعتقدوه في حقها.
﴿وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ﴾ أي : لعبدتهم إذا حزبهم أمر مهم ﴿نَصْرًا﴾ أي : نصر إما بجلب منفعة أو دفع مضرة ﴿وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ﴾ فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث كما إذا أراد أحد أن يكسرها أو يلطخها بالألواث والأرواث.
قال الحدادي : وكانوا يلطخون أفواه الأصنام بالخلوف والعسل وكان الذباب يجتمع عليها فلا تقدر على دفع الذباب عن أنفسها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٤


الصفحة التالية
Icon