قال سعيد بن هشام : دخلت على عائشة فسألتها عن أخلاق النبي عليه السلام قالت أما تقرأ القرآن؟ قلت : بلى قالت كان خلق رسول الله القرآن وإنما أدبه بالقرآن بمثل قوله تعالى :﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ﴾ وبقوله :﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَا إِنَّ ذَالِكَ مِنْ عَزْمِ الامُورِ﴾ (لقمان : ١٧) وبقوله :﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾ (المائدة : ١٣) وغير ذلك من الآيات الدالة على مكارم أخلاقه ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ بالجميل المستحسن من الأفعال لأنها قريبة من قبول الناس من غير نكير.
قال في "التيسير" : قالوا في العرف : تقوى الله صلة الأرحام وصون اللسان عن الكذب ونحوه وغض البصر عن المحارم وكف الجوارح عن المآثم.
﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ﴾ ولا تكافىء السفهاء بمثل سفههم ولا تمارهم واحلم عنهم واغضض عما يسوءك منهم، وذلك لأنه ربما أقدم بعض الجاهلين عند الترغيب والترهيب على السفاهة والأذى والضحك والاستهزاء، فلهذا السبب أمر الله تعالى حبيبه في آخر الآية بتحمل الأذى والحلم عمن جفا فظهر بهذا أن الآية مشتملة على مكارم الأخلاق فيما يتعلق بمعاملة الناس معه ولم يكن صلى الله عليه وسلّم فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً في الأسواق ولا يجزي السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح كذا في "الكواشي".
روى أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "كيف يا رب والغضب" فنزل قوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٨
﴿وَأَمَّآ﴾ كلمتان إن التي هي للشرط وما التي هي صلة زائدة ﴿يَنزَغَنَّكَ﴾ النزغ والنخس الغرز يقال نزغه طعن فيه ونزغ بينهم سد وأغرى ووسوس ونخس الدابة غرز مؤخرها أو جنبها بعود ونحوه ﴿مِنَ الشَّيْطَـانِ نَزْغٌ﴾ أي : نازغ كرجل عدل بمعنى عادل وشبهت وسوسته للناس وإغراؤه لهم على المعاصي بغرز السائق لما يسوقه.
والمعنى وإما يحملنك من جهته وسوسة ما على خلاف ما أمرت به من اعتراء غضب أو نحوه ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ فالتجىء إليه تعالى من شره واعتصم ﴿أَنَّهُ﴾ تعالى ﴿سَمِيعُ﴾ يسمع استعاذتك به قولاً ﴿عَلِيمٌ﴾ يعلم تضرعك إليه قلباً في ضمن القول
٢٩٨
أو بدونه فيعصمك من شره.
قال في "البحر" : وختم بهاتين الصفتين ؛ لأن الاستعاذة التي تكون باللسان لا تجدي إلا باستحضار معناها.
فالمعنى سميع للأقوال عليم بما في الضمائر واختلفوا هل المراد الشيطان أو القرين فقط والظاهر أنه في حقنا القرين قال الله تعالى :﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـانِ نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا فَهُوَ لَه قَرِينٌ﴾ (الزخرف : ٣٦) وفي حق رسول الله صلى الله عليه وسلّم إبليس إما نحن فلأن الإنسان لا يؤذيه من الشياطين إلا ما قرن به وما بعده فلا يضر شيئاً والعاقل لا يستعيذ ممن لا يؤذيه وأما الرسول صلى الله عليه وسلّم فإن قرينه قد أسلم فلا يستعيذ منه فالاستعاذة حينئذٍ من غيره وغيره يتعين أن يكون إبليس أو أكابر جنوده لأنه قد ورد في الحديث :"إن عرش إبليس على البحر الأخضر وجنوده حوله وأقربهم إليه أشدهم بأساً ويسأل كلاً منهم عن عمله وإغوائه ولا يمشي هو إلا في الأمور العظام" والظاهر أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أهم المهمات عنده فلا يؤثر به غيره من ذريته كما ورد "إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثلاث مرات ثم أردت أخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة" والدعوة قوله :﴿رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى﴾ وإنما لم يشده ولم يأخذه لأن التسخير التام مختص بسليمان عليه السلام.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٨
فإن قلت : لم لم يمنع إبليس عن النبي صلى الله عليه وسلّم كما منع به عن السماء الشياطين.
قلت : إن الله تعالى جعل أكثر الأشياء كذلك يمنع بها ولا يمنع عنها ألا ترى أن الليل يمنع النهار والنهار يمنع الليل ولا يمنع عنهما النور والظلمة وكذلك إحياء الموتى لعيسى عليه السلام ولم يمنع عنه الموت وأيضاً لما منع الشياطين عن السماء ظنوا أنهم لا يقدرون على محمد صلى الله عليه وسلّم فسلطهم عليه ثم عصمه منهم ليعلموا أنه ليس بأيديهم شيء.
وقال النيسابوري : أراد أن يظهر لخلقه أن غيره مقهور غير معصوم ولا قاهر إلا الله تعالى.
وعن بعض العلماء إن الخطاب في قوله :"وإما ينزغنك" وإن كان للنبي عليه السلام إلا أن المراد أمته وتشريع الاستعاذة لهم.