يقول الفقير حفظه الله القدير : يعضده ما قال بعض الأولياء من أمته وهو أبو سليمان الداراني قدس سره ما خلق الله خلقاً أهون علي من إبليس لولا أن الله أمرني أن أتعوذ منه ما تعوذت منه أبداً، وما قال البعض الآخر حين قيل له : كيف مجاهدتك للشيطان؟ وما الشيطان نحن قوم صرفنا هممنا إلى الله فكفانا من دونه فإذا كان هذا حال الولي فما ظنك بحال النبي ويدل عليه أيضاً كلمة إن الدالة على عد الجزم.
واعلم : أن الغضب لغير الله من نزغات الشيطان وإنه بالاستعاذة يسكن.
روي أنه صلى الله عليه وسلّم رأى رجلاً يخاصم أخاه قد احمر وجهه وانتفخت أوداجه من الغضب فقال عليه السلام :"إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان لذهب عنه ما يجده" وفي الحديث :"إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" وفي "المثنوي" :
ون زخشم آتش تودر دلها زدى
مايه نار جهنم آمدى
آتشت اينجاه آدم سوز بود
آنه ازوى زاد مرد افروز بود
٢٩٩
آتش توقصد مردم ميكند
نار كزوى زاد برمدم زند
اين سخنهاى ومار وكدست
مار وكدم كشت وميكردد دمت
خشم تو تخم سعير ودوزخست
هين بكش اين دوزخت راكين فخست
وفي الحديث :"لما أراد الله أن يخلق لإبليس نسلاً وزوجة ألقى عليه الغضب فطارت منه شظية من نار فخلق منها امرأته" كذا في "حياة الحيوان".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٨
والإشارة ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ أي : تخلق بخلق الله فإن العفو من أخلاقه تبارك وتعالى :﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ أي : بالمعروف وهو طلب الحق تعالى لأنه معروف العارفين.
﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ﴾ يعني عن كل ما يدعوك إلى غير الله وعمن يطلب ما سوى الله فإن الجاهل هو الذي لا يعرف الله ولا يطلبه والعالم من يطلبه ويعرفه.
﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَـانِ نَزْغٌ﴾ في طلب غير الله ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ من غير الله بأن تفر إلى الله وتترك ما سواه.
﴿إِنَّه سَمِيعٌ﴾ يسمع القول والإجابة لما تدعوه إليه ﴿عَلِيمٌ﴾ بما ينفعك ويضرك فيسمع ما ينفعك دون ما يضرك كذا في "التأويلات النجمية".
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ أي : اتصفوا بوقاية أنفسهم عما يضرها.
﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائفٌ مِّنَ الشَّيْطَـانِ﴾ أدنى لمة منه وهي الوسوسة والمس، والطائف اسم فاعل من طاف يطوف إذا دار حول الشيء كأنها تطوف بهم وتدور حولهم لتوقع بهم أو من طاف به الخيال يطيف طيفاً، أي ألمّ فالطائف بمعنى الجائي والنازل.
وفي "الصحاح" : طيف الخيال مجيئه في النوم وطيف من الشيطان وطائف منه لمم منه والخيال في الأصل اسم بمعنى التخيل وارتسام الصورة في محل القوة المتخيلة ويطلق على نفس تلك الصورة وطيفه نزوله في محل المتخيلة.
﴿تَذَكَّرُوا﴾ أي : ما أمر به ونهى عنه.
وقال المولى أبو السعود : أي : الاستعاذة به تعالى والتوكل عليه.
﴿فَإِذَا هُم﴾ بسبب ذلك التذكر ﴿مُّبْصِرُونَ﴾ مواقع الخطأ ومكائد الشيطان فيتحرزون عنها ولا يتبعونه فيها.
﴿وَإِخْوَانِهِمْ﴾ أي : إخوان الشياطين وهم المنهمكون في الغي المعرضون عن وقاية أنفسهم عن المضار فضمير إخوانهم للشيطان والجمع لكون المراد به الجنس.
﴿يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىِّ﴾ أي : يكون الشياطين مدداً لهم فيه ويعضدونهم بالتزيين والحمل عليه والغي الضلال.
﴿ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ﴾ أي : لا يمسكون عن الإغواء حتى يردونهم بالكلية يقال أقصر عن الشيء إذا كف عنه وانتهى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٨
فعلى العاقل مباعدة أهل الطغيان ومجانبة وسوسة الشيطان.
حكي أن بعض الأولياء سأل الله تعالى أن يريه كيف يأتي الشيطان ويوسوس فأراه الحق تعالى هيكل الإنسان في صورة بلور وبين كتفيه خال أسود كالعش والوكر فجاء الخناس يتحسس من جميع جوانبه وهو في صورة خنزير له خرطوم كخرطوم الفيل فجاء من بين الكتفين فأدخل خرطومه قبل قلبه فوسوس إليه فذكر الله تعالى فخنس وراءه ولذلك سمي بالخناس لأنه ينكص على عقبيه مهما حصل نور الذكر في القلب ولهذا السر الإلهي احتجم صلى الله عليه وسلّم بين كتفيه وأمر بذلك ووصاه جبريل بذلك لتضعيف مادة الشيطان وتضييق مرصده لأنه يجري وسوسته مجرى الدم ولذلك كان خاتم النبوة بين كتفيه عليه السلام إشارة إلى عصمته عليه السلام من وسوسته لقوله عليه السلام :"أعانني الله عليه فأسلم" أي بالختم الإلهي أيده به وخصه وشرفه وفضله بالعصمة الكلية فأسلم قرينه وما أسلم قرين آدم فوسوس إليه لذلك.
واعلم : أن أصل الخواطر اثنان ما يكون بإلقاء الملك وما يكون
٣٠٠
بإلقاء الشيطان والفرق أن كل ما يكون سبباً للخير بحيث يكون مأمون الغائلة أي الآفة في العاقبة ولا يكون سريع الانتقال إلى غيره ويحصل بعده توجه تام إلى الحق ولذة عظيمة مرغبة في العبادة فهو ملكي وبالعكس شيطاني.