قال في "الكشف" : لا يجهر فوق حاجة الناس وإلا فهو مسيء.
والفرق بين الكراهة والإساءة هو أن الكراهة أفحش من الإساءة ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمر رضي الله عنه يقرأ رافعاً صوته فسأله فقال أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان قال عليه السلام :"اخفض من صوتك قليلاً" وأتى أبا بكر رضي الله عنه فوجده يقرأ خافضاً صوته فسأله فقال قد أسمعت من ناجيت فقال عليه السلام :"ارفع من صوتك قليلاً" وقد جمع النووي بين الأحاديث الواردة في استحباب الجهر بالذكر والواردة في استحباب الإسرار به بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى المصلون أو النائمون والجهر أفضل في غير ذلك لأن العمل فيه أكثر ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين ولأنه يوقظ قلب الذاكر ويجمع همه إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ويطرد النوم ويزيد في النشاط وبالجملة إن المختار عند الاخيار أن المبالغة والاستقصاء في رفع الصوت بالتكبير في الصلاة ونحوه مكروه والحالة الوسطى بين الجهر والإخفاء مع التضرع والتذلل والاستكانة الخالية عن الرياء جائز غير مكروه باتفاق العلماء كذا في "أنوار المشارق" وقد سبق من شارح "الكشاف" أن الشيخ المرشد قد يأمر المبتدي برفع الصوت لتنقلع من قلبه الخواطر الراسخة فيه.
﴿بِالْغُدُوِّ وَالاصَالِ﴾ متعلق باذكر، أي : اذكره في هذين الوقتين وهما البكرات والعشيات فإن الغدو جمع غدوة وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، والآصال : جمع أصيل وهو الوقت بعد العصر إلى المغرب والعشي والعشية من صلاة المغرب إلى العتمة وخص هذان الوقتان لأن فيهما تتغير أحوال العالم تغيراً عجيباً يدل على أن المؤثر فيه هو الإله الموصوف بالحكمة الباهرة والقدرة القاهرة فكل من شاهد هذه التغيرات ينبغي له أن يذكر المؤثر فيها بالتضرع والابتهال والخوف من تحويل حاله إلى سوء الحال، وقيل : الغدو والآصال عبارتان عن الليل والنهار اكتفى عن ذكرهما بذكر طرفيهما والمراد بذكره تعالى فيهما المواظبة عليه بقدر الإمكان.
﴿وَلا تَكُن مِّنَ الْغَـافِلِينَ﴾ عن ذكر الله تعالى أمر أولاً بأن يذكر ربه على وجه يستحضر في نفسه معاني الأذكار التي يقولها بلسانه فإن المراد بذكر الله في نفسه أن يذكره تعالى عارفاً بمعاني ما يقول من الأذكار ثم أتبعه بقوله :﴿وَلا تَكُن مِّنَ الْغَـافِلِينَ﴾ للدلالة على أن الإنسان ينبغي له أن لا يغفل قلبه عن استحضار جلال الله
٣٠٦
تعالى وكبريائه وفي الحديث :"ألا أنبئكم بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم ذكر الله" أي : ما هو خير لكم مما ذكر ذكر الله سبحانه ؛ لأن ثواب الغزو والشهادة في سبيل الله حصول الجنة، والذاكر جليس الحق تعالى كما قال :"أنا جليس من ذكرني" والجليس لا بد أن يكون مشهوداً فالحق مشهود الذاكر وشهود الحق أفضل من حصول الجنة ولذلك كانت الرؤية بعد حصول الجنة وكمال تلك النعمة، والذكر المطلوب من العبد، أن يذكر الله باللسان ويكون حاضراً بقلبه وروحه وجميع قواه بحيث يكون بالكلية متوجهاً إلى ربه فتنتفي الخواطر وتنقطع أحاديث النفس عنه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٠١
ثم إذا داوم عليه ينتقل الذكر من لسانه إلى قلبه ولا يزال يذكر بذلك حتى يتجلى له الحق من وراء أستاء غيوبه فينور باطن العبد بحكم، ﴿وَأَشْرَقَتِ الارْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾ ويعده إلى التجليات الصفاتية والاسمائية ثم الذاتية فيفنى العبد في الحق فيذكر الحق نفسه بما يليق بجلاله وجماله فيكون الحق ذاكراً ومذكوراً وذلك بارتفاع الثنوية وانكشاف الحقيقة الأحدية كذا في "شرح الفصوص" لداود القيصري في الكلمة اليونسية :
ون تجلى كرد أوصاف قديم
س بسوزد وصف حادث راكليم


الصفحة التالية
Icon