﴿يُجَـادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ﴾ الذي هو تلقي النفير لإيثارهم عليه تلقي العير.
﴿بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ﴾ منصوب بيجادلونك وما مصدرية، أي : يخاصمونك بعد تبين الحق وظهوره لهم بإعلامك أنهم ينصرون أينما توجهوا ويقولون ما كان خروجنا إلا للعير وهلا قلت لنا إن الخروج لمقاتلة النفير لنستعد ونتأهب فمن قال ذلك إنما قال كراهة لإخراجه عليه الصلاة والسلام من المدينة وكراهتهم القتال.
﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ﴾ الكاف في محل النصب على الحالية من الضمير في لكارهون أي مشبهين بالذين يساقون بالعنف والصغار إلى القتل.
﴿وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾ حال من ضمير يساقون أي والحال إنهم ينظرون إلى أسباب الموت ويشاهدونها عياناً وما كانت هذه المرتبة من الخوف والجزع إلا لقلة عددهم وعدم تأهبهم وكونه رجالة.
وروي أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ليس فيهم إلا فارسان الزبير والمقداد ولهم سبعون بعيراً وست أدرع وثمانية أسياف وكان المشركون أكثر عدداً وعدداً بالأضعاف.
والإشارة : أن الله تعالى أخرج المؤمنين الذين هم المؤمنون حقاً من أوطان البشرية إلى مقام العندية بجذبات العناية.
﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنا بَيْتِكَ﴾ أي : من وطن وجودك بالحق أي بمجيء الحق من تجلى صفات جماله وجلاله.
﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَـارِهُونَ﴾ أي : القلب والروح يعني للفناء عند التجلي فإن البقاء محبوب والفناء مكروه على كل ذي وجود يجادلونك أي الروح والقلب في الحق أي مجيء الحق من بعد ما تبين مجيئه لكراهة الفناء كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون يعني كأنهم ينظرون إلى الفناء ولا يزول البقاء بعد الفناء كمن يساق إلى الموت كذا في "التأويلات النجمية".
وفي "المثنوي" :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣١٤
شير دنيا جويد اشكارى وبرك
شير مولى جويد آزادى ومركونكه اندر مرك بيند صد وجود
همو روانه بسوزاند وجود
كل شيء هالك جز وجه او
ون نه در وجه اوهستى مجوهركه اندر وجه ما باشد فنا
كل شيء هالك نبود جزا
زانكه در "الا" ست اواز "لا" كذشت
هركه در "الا" ست أو فاني نكشت
واعلم : أنه كما لا اعتراض على الأنبياء في وحيهم وعباراتهم كذلك لا اعتراض على الأولياء في إلهامهم وإشاراتهم وأن السعادة في العمل والأخذ بآياتهم والوجود وإن كان محبوباً لأهل الوجود لكن الفناء محبوب لأهل الشهود.
فعلى السالك أن ينقطع عن جميع اللذات الدنيوية ويطهر نفسه عن لوث الأغراض الدنية ويكون الرسول وأمره أحب إليه من نفسه إلى
٣١٦
أن ينفد عمره.
روى البخاري عن عبد الله بن هشام أنه قال : كنا مع النبي عليه السلام وهو آخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله أنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي فقال صلى الله عليه وسلّم "لا والذي نفس محمد بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" أي : لا يكون إيمانك كاملاً حتى تؤثر رضاي على رضى نفسك وإن كان فيه هلاكك فقال عمر الآن والله أنت أحب إلي من نفسي فقال :"الآن يا عمر" يعني صار إيمانك كاملاً.
قال ابن ملك : والمراد من هذه المحبة محبة الاختيار لا محبة الطبع لأن كل أحد مجبول على حب نفسه أشد من غيرها انتهى.
قوله محبة الاختيار وهو أن يختار رضى النبي عليه السلام على رضى نفسه فالمراد هو الإيثار، كما قال تعالى :﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (الحشر : ٩) فكما أن هذا الإيثار لا يقتضي عدم احتياج المؤثر فكذلك إيثار رضى الغير لا يستدعي أن تكون المحبة له أشد من كل وجه هذا ولكن فوق هذا كلام فإن من فني عن طبيعته ونفسه بل عن قالبه وقلبه فقد فني عن محبتها أيضاً وتخلص من الاثنينية ووصل إلى مقام المحبوبية الذي لا غاية وراءه رزقنا الله وإياكم ذلك بفضله وكرمه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣١٤