وفي الآية : إشارة إلى أن كل سعادة وشقاوة تحصل للعبد في الدنيا والآخرة يكون للعبد فيها مدخل بالكسب.
﴿وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أي : ومن يخالف أولياء الله ورسوله ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ له.
قال الحدادي : أما إظهار التضعيف في موضع الجزم في قوله :﴿يُشَاقِقِ اللَّهَ﴾ فهو لغة أهل الحجار وغيرهم يدغم أحد الحرفين في الآخر لاجتماعهما من جنس واحد، كما قال تعالى في سورة الحشر ﴿وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ﴾ (الحشر : ٤) بقاف واحدة.
﴿ذَالِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَـافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ﴾ قوله ذلكم خبر مبتدأ محذوف وقوله وأن إلخ معطوف عليه، وقوله :(فذوقوه) اعتراض والضمير لما في ضمن المشار إليه من العقاب، والتقدير حكم الله ذلكم أي ثبوت هذا العقاب لكم عاجلاً وثبوت عذاب النار آجلاً، وإنما قال في عذاب الدنيا فذوقوه لأن الذوق يتناول اليسير من الشيء فكل ما يلقى الكفار من ضرب أو قتل أو أسر أو غيرها في الدنيا فهو بالنسبة إلى ما أعد لهم في الآخرة بمنزلة ذوق المطعوم بالنسبة إلى آكله.
قال في "التأويلات النجمية" :﴿فَذُوقُوهُ﴾ أي : ذوقوا العاجل منه صورة ومعنى أما صورة فبالقتل والأسر والمصائب والمكروهات، وأما معنى فبالبعد والطرد عن الحضرة وتراكم الحجب وموت القلب وعمى البصيرة وضعف الروح وقوة النفس واستيلاء صفاتها وغلبة هواها وما يبعده عن الحق ويقربه إلى الباطل.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٢١
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال سوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم صفوفهم وقدموا راياتهم فوضعوها مواضعها فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على بعير له يدعو الله ويستغيث فهبط جبريل عليه السلام في خمسمائة على ميمنتهم وميكائيل عليه السلام في خمسمائة على ميسرتهم فكان الملك يأتي الرجل من المسلمين على صورة رجل، ويقول له دنوت من عسكر المشركين فسمعتهم يقولون، والله لئن حملوا علينا
٣٢٢
لا نثبت لهم أبداً وألقى الله في قلوب الكفرة الرعب بعد قيامهم للصف، فقال عتبة بن ربيعة : يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش نقاتلهم فقام إليهم بنو عفراء من الأنصار عوذ ومعوذ أمّهم عفراء وأبوهم الحارث، فمشوا إليهم، فقالوا لهم : ارجعوا وأرسلوا إلينا أكفاءنا من بني هاشم، فخرج عليهم حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، فقال علي : مشيت إلى الوليد بن عتبة ومشى إلي فضربته بالسيف أطرت يده ثم بركت عليه فقتلته، فقام شيبة بن ربيعة إلى عبيدة بن الحارث فاختلفا بضربتين ثم ضرب عبيدة ضربة أخرى فقطع ساق شيبة، ثم قام حمزة إلى عتبة، فقال : أنا أسد الله وأسد رسوله، ثم ضربه حمزة فقتله فقام أبو جهل في أصحابه يحرضهم يقول : لا يهولنكم ما لقي هؤلاء فإنهم عجلوا فاستحقوا ثم حمل هو بنفسه ثم حمل المسلمون كلهم على المشركين فهزموهم بإذن الله تعالى" وفي حق هؤلاء السادات ورد "اطلع الله على أهل بدر" يعني نظر إليهم بنظر الرحمة والمغفرة "فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" المراد به إظهار العناية بهم وإعلاء رتبتهم لا الترخيص لهم في كل فعل كما يقال للمحبوب اصنع ما شئت.
فعلى العاقل أن يقتفي بأثرهم في باب المجاهدة مطلقاً.
قال الحافظ :
درره نفس كزوسينه ما بتكده شد
تير آهى بكشاييم وغزايى بكنيم
وقال في حق أهل الجزع :
ترسم كزين من نبرى آستين كل
كز كلشنش تحمل حارى نميكنى
اللهم اجعلنا من الصابرين.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٢١
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} لقيه أي رآه ﴿زَحْفًا﴾ الزحف الدبيب يقال زحف الصبي زحفاً من باب فتح إذا دب على استه قليلاً قليلاً سمي به الجيش الدهم المتوجه إلى العدو ؛ لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف وذلك لأن الكل يرى كجسم واحد متصل فيحس حركته بالقياس إليه في غاية البطء وإن كانت في نفس الأمر في غاية السرعة ونصبه على حال من مفعول لقيتم بمعنى زاحفين نحوكم، والمعنى : إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل.
﴿فَلا تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ﴾ فلا تولوهم أدباركم فضلاً عن الفرار بل قابلوهم وقاتلوهم مع قلتكم فضلاً عن أن تدانوهم في العدد وتساووهم، عدل عن لفظ الظهور إلى لفظ الأدبار تقبيحاً لفعل الفار وتشنيعاً لانهزامه والتولية جعل الشيء يلي غيره وهو متعد إلى مفعولين وولاه دبره إذا جعله إليه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٢٣


الصفحة التالية
Icon