والإشارة : أيها القلوب المؤمنة إذا لقيتم كفار النفوس وصفاتها مجتمعين على قهر القلوب وصفاتها فلا تنهزموا من سطوات النفوس وغلبات صفاتها بل اثبتوا بالصبر عند صدمات النفوس فإن الصبر عند الصدمة الأولى كما روي أن النبي عليه السلام أتى على امرأة تبكي على صبي ميت لها فقال :"اتقي الله واصبري" فقالت وما تبالي على مصيبتي فلما ذهب عليه السلام قيل لها إنه رسول الله فأخذها مصيبة مثل موت صبيها فجاءت بابه تستعذره وتقول لم أعرفك يا رسول الله فقال عليه السلام :"الصبر عند الصدمة الأولى" الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله والصدمة مرة منه، يعني : الصبر المأجور عليه صاحبه ما كان عند فجأة المصيبة وحدتها لأنه إذا طالت الأيام عليه صار الصبر أيسر له ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ دُبُرَه إِلا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾ يعني : إلا قلباً ينحرف ليهيىء أسباب القتال مع النفس أو راجعاً إلى الاستمداد من الروح وصفاتها أو إلى ولاية الشيخ يستمد منها إلى الحضرة الربانية في قمع النفس وقهرها بطريق المجاهدة والرياضة.
﴿فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ﴾ يعني : بطرد وإبعاد منه ﴿وَمَأْوَاـاهُ جَهَنَّمُا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أي : مرجعه جهنم البعد عن الحضرة ونار القطيعة وبئس المرجع والمعاد.
﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾ أي : إن افتخرتم بقتل الكفار يوم بدر فاعلموا أنكم لم تقتلوهم بقوتكم وقدرتكم.
﴿وَلَـاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم.
روي أنه لما طلعت قريش من العقنقل وهو الكثيب الذي جاؤوا منه إلى الوادي قال عليه السلام :"هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهم إني أسألك ما وعدتني" فأتاه جبريل فقال : خذ قبضة من تراب فارمهم بها فلما التقى الجمعان قال لعلي رضي الله عنه "أعطني من حصباء الوادي" فرمى بها في وجوههم وقال :"شاهت الوجوه" أي : قبحت فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه تراب فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، ثم لما انصرفوا من المعركة غالبين غانمين أقبلوا على التفاخر يقولون قتلت وأسرت وفعلت وتركت فنزلت والظاهر أن قوله :﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾ رجوع إلى بيان بقية قصة بدر والفاء جواب شرط مقدر يستدعيه ما مر من ذكر إمداده تعالى وأمره بالتثبيت وغير ذلك كأنه قيل : إذا كان الأمر كذلك فلم تقتلوهم أنتم كما هو محتار المولى أبي السعود في "تفسيره" ﴿وَمَا رَمَيْتَ﴾ يا محمد حقيقة ﴿إِذْ رَمَيْتَ﴾ صورة وإلا لكان أثر الرمي من جنس آثار الأفاعيل البشرية.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٢٣
﴿وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ أتى بما هو غاية الرمي فأوصل أجزاء تلك القبضة إلى عيون جميع المشركين حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم فصورة الرمي صدرت منه عليه السلام إلا أن أثرها إنما صدر من الله تعالى إذ ليس في وسع البشر أن يرمي كفاً من الحصباء في وجوه جيش فلا يبقى فيهم عين إلا ويصيبها منه شيء.
واللفظ يطلق على المسمى وعلى ما هو كماله والمقصود منه كإطلاق المؤمن على المؤمن الكامل.
قال في "التأويلات النجمية" : إن الله نفى عن الصحابة القتل بالكلية وأحاله إلى نفسه لأنه تعالى كان مسبب أسباب القتل من إمداد الملائكة وإلقاء الرعب في قلوب الكفار وتقوية
٣٢٥
قلوب المؤمنين وغير ذلك فالفعل يحال إلى السبب، كقولهم القلم يكتب مليحاً والكاتب يكتب مليحاً وهو المسبب للكتابة.
قال في "المثنوي" :
هر ه خواهد آن مسبب آورد
قدرت مطلق سببها بر درد
از مسبب ميرسد هر خير وشر
نيست أسباب ووسائط را اثر
اين سببها بر نظرها ردهاست
كه نه هرديدار صنعش راسزاست
ديده بايد سبب سوارخ كن
تا حجب رابر كند از بيخ وبن
تامسبب بيند اندر لامكان
هرزه بيند جهدوا ساب ودكان
والفرق فيما بين النبي عليه السلام وبين الصحابة رضي الله عنهم أن الله تعالى نفى القتل عن الصحابة بالكلية وأحاله إلى نفسه، فجعلهم سبباً للقتل وهو المسبب وما نفى الرمي عن النبي عليه السلام بالكلية بل أسند إليه الرمي ولكن نفى وجوده بالكلية في الرمي، وأثبته لنفسه تعالى، أي : وما رميت بك إذ رميت، ولكن رميت بالله وذلك في مقام التجلي فإذا تجلى الله لعبد بصفة من صفاته يظهر على العبد منه فعلاً يناسب تلك الصفة، كما كان من حال عيسى عليه السلام لما تجلى الله له بصفة الإحياء كان يحيي الموتى بإذنه أي به وهذا كقوله تعالى :"كنت له سمعاً وبصراً" الحديث فلما تجلى الله للنبي عليه السلام بصفة القدرة كان قد رمى به حين رمى وكان يده يد الله في ذلك كما كشف القناع عن هذه الحقيقة في قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ (الفتح : ١٠).