قال الحدادي في "تفسيره" : نزلت في عثمان وعلي رضي الله عنهما أخبر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلّم بالفتنة التي تكون بسببهما أنها ستكون بعدك تلقاها أصحابك تصيب الظالم والمظلوم ولا تكون للظلمة وحدهم خاصة ولكنها عامة فأخبر النبي عليه السلام بذلك أصحابه فكان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم من الفتن بسبب علي وعثمان رضي الله عنهما ما لا يخفى على أحد انتهى.
والمعنى لا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم بل تعمه وغيره كإقرار المنكر بين أظهرهم والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ولذلك يصيب بالعذاب من لم يباشر سببه وفيه تحذير من شدة العقوبة لمن أهاج الفتن وفي الحديث :"الفتنة راتعة في بلاد الله واضعة خطامها فالويل لمن أهاجها" وفي بعض الأخبار "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها".
قال السعدي :
ازان همنشين تاتوانى كريز
كه مرفتنه خفته را كفت خيز
قال القرطبي : فإن قيل قال الله تعالى :﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (الأنعام : ١٦٤).
﴿كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ (المدثر : ٣٨).
﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ (البقرة : ٢٨٦) وهذا يوجب أن لا يؤاخذ أحد بذنب غيره وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب، فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على من رآه أن يغيره فإن سكت عليه فكلهم عاص هذا بفعله وهذا برضاه وقد جعل الله في حكمه وحكمة الراضي بمنزلة العامل فانتظم في العقوبة قاله ابن العربي انتهى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٢٩
قال حضرة الشيخ صدر الدين القنوى قدّس سره في "شرح الأربعين حديثاً" وأحياناً تظهر سلطنة العمل الفاسد فيسري حكمها في حال ذي العمل الصالح فيتضرر بذلك وإن لم يتعد الضرر إلى أعماله، والإشارة إلى ذلك قوله تعالى :﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ الآية.
وليس هذا بمخالف للأصل المترجم عنه بقوله تعالى :﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ فإن هذا الأثر لا يقع ولا يسري بحكم ما به امتاز الصالح من الطالح بل بموجب ما به يثبت الاتحاد والاشتراك بينهما وقوله :﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ لسان غلبته حكم ما به الامتياز وأيضاً ففعل الحق من حيث صدوره من جنابه وحداني كلي شامل لا تخصيص فيه بل التخصيص من القوابل المتأثرة وهذا عام في الشر والخير ففي الشر ما ذكر في قوله تعالى :﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً﴾ الآية.
وفي الخير ما أشار إليه عليه السلام في الحديث المذكور في حق الذين يجتمعون لذكر الله وكون الحق يباهي بهم الملائكة ويقول "أشهدكم أني قد غفرت لهم" وقول بعض الملائكة إن فيهم فلاناً ليس منهم وإنما أتاهم لحاجة فيقول الحق سبحانه وتعالى :"وله قد غفرت هم القوم لا يشقى جليسهم" فهذا أثر عموم الحكم من جهة الحق وكليته وأثر صلاح الحال الفاسد بمجاورة ذي الحال والعمل الصالح والحضور معه فتذكر انتهى كلام القنوي.
وفي "المثنوي" :
اي خنك آن مرده كزخودرسته شد
درو جود زنده يوسته شدواي آن زنده كه بامرده نست
مرده كشت وزندكى ازوى بجست
حق ذات اك الله الصمد
كه بود به ماربد از يار بدماربد جاني ستاند ازسليم
يا ربد آرد سوى نار مقيم
٣٣٣
والإشارة في الآية :﴿وَاتَّقُوا﴾ يا أيها الواصلون.
﴿فِتْنَةٌ﴾ يعني : ابتلاء النفوس بشيء من حظوظها الدنيوية والأخروية.
﴿لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً﴾ يعني : لا تصيب تلك الفتنة النفوس الظالمة فقط بل تصيب ظلمتها الأرواح النورانية والقلوب الربانية فتجتذبها من حظائر القدس ورياض الأنس إلى حضائض صفات الأنس كما قال تعالى :﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف : ١٨٢) ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ فيعاقب الواصلين بالانقطاع والاستدراج عند الالتفات إلى ما سواه كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٢٩
﴿وَاذْكُرُوا﴾ أيها المهاجرون ﴿إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ﴾ أي : وقت كونكم قليلاً في العدد.
﴿مُّسْتَضْعَفُونَ﴾ خبر ثاننٍ، أي : مقهورون تحت أيدي قريش ﴿فِى الأرْضِ﴾ أي : أرض مكة.
﴿تَخَافُونَ﴾ خبر ثالث ﴿أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ﴾ التخطف الأخذ والاستلاب بسرعة وهم كانوا يخافون أن يخرجوا من مكة حذراً من أن يستلبهم كفار قريش ويذهبوا بهم.
أي : جعل لكم مأوى ترجعون إليه وهو المدينة دار الهجرة.
﴿وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ﴾ على الكفار ﴿وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ﴾ من الغنائم التي لم تكن حلالاً للأمم السالفة.
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ هذه النعم.