قال الجنيد قدس سره : كنت عند السري وأنا ابن سبع سنين وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر فقال لي يا غلام ما الشكر فقلت أن لا تعصي الله بنعمه فقال يوشك أن يكون حظك من الله لسانك فلا أزال أبكي على هذه الكلمة.
واعلم أن الدولة العثمانية التي هي آخر الدول الإسلامية كانت على الضعف في الأوائل وأهلها قليلون مستضعفون تحت أيدي فارس والروم حتى قوّاهم الله بالعَدَدِ والعُدَدِ ونصرهم على أعدائهم فكانوا يستفتحون من مشارق الأرض ومغاربها ويأوون إلى الأماكن في الأقطار إلى أن آل الأمر إلى ما آل، فكل ذلك نعم جسيمة وستعود هذه الحال إلى ما كانت عليه في الابتداء فإن الإسلام بدا غريباً وسيعود غريباً وما ذلك إلا بالغرور والكفران وادعاء الاستحقاق من غير برهان قال السعدي قدس سره :
ترا آنكه شم ودهان داد وكوش
اكر عاقلي درخلافش مكوش
مكن كردن ازشكر منعم مي
كه روزي سين سربر آرى بهي
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٣٤
ثم اعلم : أن الروح والقلب في بدء الخلقة وتعلقهما بالقالب وكذا صفاتهما مستضعفون من غلبات النفس لإعواز التربية بألبان آداب الطريقة وانعدام جريان أحكام الشريعة عليهم إلى أوان البلوغ والتربية في هذه المدة للنفس وصفاتها لاستحكام القالب لحمل أعباء تكاليف الشريعة وهما أعني الروح والقلب يخافون أن تستلبهم النفس وصفاتها ويغتالهم الشيطان وأعوانه فآواكم إلى حظائر القدس وأيديكم بنصره بالواردات الربانية.
﴿وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ﴾ أي : من المواهب الطاهرة من لوث الحدوث.
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ فتستحقون المزيد.
شكر نعمت نعمتت افزون كند
كفر نعمت ازكفت بيرون كند
والعمدة قلة الأكل وكثرة الشكر والطاعة.
ويقال : أربع في الطعام فريضة : أن لا يأكل إلا من الحلال، وأن يعلم أنه من الله تعالى، وأن يكون راضياً، وأن لا يعصي الله ما دامت قوة ذلك الطعام فيه.
وأربع سنّة : أن يسمي الله في الابتداء، وأن يحمد الله في الانتهاء، وأن يغسل يديه قبل الطعام
٣٣٤
وبعده، وأن يثنى رجله اليسرى وينصب اليمنى على الجلوس.
وأربع آداب : أن يأكل مما يليه، وأن يصغر اللقمة، وأن يمضغها مضغاً ناعماً، وأن لا ينظر إلى لقمة غيره.
واثنان دواء، أن يأكل ما سقط من المائدة، وأن يلعق القصعة.
واثنان مكروهان : أن يشم الطعام، وأن ينفخ فيه ولا يأكل حاراً حتى يبرد فإن اللذة في الحار والبركة في البارد.
فعلى العاقل الساعي في طلب مرضاة الله تعالى تحصيل القوت الحلال وكثرة شكر المنعم المفضال ولله على العبد نعم ظاهرة وباطنة وألطاف جليلة وخفية.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٣٤
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} أصل الخون : النقص، كما أن أصل الوفاء التمام واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه فإنك إذا خنت الرجل فقد أدخلت عليه النقصان.
روي أنه عليه السلام حاصر بني قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوه الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحا من الشام فأبى إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فأبوا وقالوا أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، وكان مناصحاً لهم لأن عياله وماله كانت في أيديهم فبعثه إليهم فقالوا : ما ترى هل ننزل على حكم سعد فأشار إلى حلقه بالذبح، أي : إن حكم سعد فيكم أن تقتلوا صبراً، فلا تنزلوا على حكمه يقال فلان مقتول صبراً إذا صار محبوساً على القتل حتى يقتل قال أبو لبابة فما زالت قدماي من مكانهما حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله وذلك لأنه عليه السلام أراد منهم أن ينزلوا على حكم سعد ويرضوا بما حكم فيهم وهو صرفهم عنه فنزلت هذه الآية فشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ فمكث سبعة أيام حتى خر مغشياً عليه ثم تاب الله عليه، فقيل له : قد تيب عليك فحل نفسك فقال لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو الذي يحلني فجاءه عليه السلام فحله فقال : إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي فقال عليه السلام :"يجزئك الثلث أن تتصدق به" ﴿وَتَخُونُوا أَمَـانَـاتِكُمْ﴾ فيما بينكم، أي : لا تخونوها فهو مجزوم معطوف على الأول.
﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنكم تخونون، يعني : أن الخيانة توجد منكم عن عمد لا عن سهو ولما نهى عن الخيانة نبه على أن الداعي إليها إنما هو حب المال والأولاد ألا يرى أن أبا لبابة إنما حمله على ما فعل ماله وأهله وولده الذين كانوا في بني قريظة ؛ لأنه إنما ناصحهم لأجلهم وخان المسلمين بسببهم، فقال :


الصفحة التالية
Icon