﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ﴾ اللام متعلقة بيحشرون أو يغلبون والميز بالفارسية (جدا كردن).
﴿الْخَبِيثَ﴾ فريق الكفار ﴿مِنَ الطَّيِّبِ﴾ فريق المؤمنين ﴿وَيَجْعَلَ﴾ الفريق ﴿الْخَبِيثَ بَعْضَه عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَه جَمِيعًا﴾ أي يجمعهم ويضم بعضهم إلى بعض حتى يتراكموا ويتزاحموا فالركم ليس عبارة عن الجمع مطلقاً بل هو الجمع بين أشياء بحيث يتراكب بعضها فوق بعض ومنه السحاب المركوم ﴿فَيَجْعَلَه فِى جَهَنَّمَ﴾ كله ﴿أولئك﴾ الفريق الخبيث ﴿هُمُ الْخَـاسِرُونَ﴾ الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أموالهم وأنفسهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٤٢
والإشارة : أن الله تعالى خلق الروح نورانياً علوياً وخلق النفس ظلمانية سفلية ثم أشرك بينهما وجعل رأس مالهما الاستعداد الفطري القابل للترقي، والكمال في القربة والمعرفة والخسارة والنقصان فمن اتجر فآمن وجاهد بنفسه وماله في سبيل الله وطلبه وبلغ مبلغ الرجال البالغين فقد ربح روحه ونفسه جميعاً ومن آمن بالله ورسوله، لكن وجد منه العصيان ومخالفة الشريعة فقد ربح روحه وخسر نفسه ومن لم يؤمن بالله ورسوله وكفر بهما فقد خسر روحه ونفسه جميعاً.
قيل : دخل على الشبلي قدس سره في وقت وفاته، وهو يقول : يجوز يجوز، فقيل له ما معنى قولك يجوز؟ فقال : خلق الله الروح والنفس وأشرك بين الروح والنفس فعملا واتجرا سنين كثيرة فحوسبا فإذا هما قد خسرا وليس معهما ربح، فقد عزما على الافتراق، وأنا أقول شركة لا ربح فيها يجوز أن يقع بين الشريكين افتراق.
قال السعدي :
كوس رحلت بكوفت دست اجل
اي دو شم وداع سر بكنيد
اي كف ودست وساعد وبازو
همه توديع يكد كر بكنيد
بر من افتاده مرك دشمن كام
آخراى دوستان حذر بكنيد
روز كارم بشد بناداني
من نكردم شما حذر بكنيد
فعلى العاقل أن يجتهد قبل مجيء الفوت ويربح في تجارته ببذل النفس والمال والطيب من الأموال ما يبذل في طلب الله على الطالبين والخبيث ما يلتفت إليه الطالب من غير حاجة ضرورية فيشغله عن الله وطلبه فيكون قاطع طريقه.
ويروى أن الله تعالى يضم الأموال
٣٤٤
الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنم ويعذب أربابها كقوله تعالى :﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُم﴾ وروى أن أبا سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من العرب على محاربة الرسول سوى من استجاش من العرب أي : صار جيشاً وأنفق عليهم أربعين أوقية والأوقية اثنان وأربعون مثقالاً.
وفي القاموس سبعة مثاقيل فانظر إلى الكفار وجسارتهم على الإنفاق لغرض فاسد وهو الصد عن سبيل الله وأقل من القليل من المسلمين من يبذل ماله ولو قليلاً لجذب القلوب والوصول إلى رضى المحبوب فلا بد للمرء من قطع النفس عن مألوفها وهو حب المال.
ومن كلمات الجنيد قدس سره : ما أخذنا التصوف عن القال والقيل لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات.
وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رجل يا رسول الله، أيَّ الناس أفضل؟ قال : مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله قال : ثم من؟ قال : رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره وفيه دليل على فضل العزلة وهي مستحبة عند فساد الزمان وتغير الإخوان وتقلب الأحوال ووقوع الفتن وتراكم المحن كما فعله جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وقد كان النبي عليه السلام عند تقلب الأحوال واختلاف الرجال وكثرة القيل والقال يأمر بالاعتزال وملازمة البيوت وكسر السيوف واتخاذها من العراجين والخشب.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٤٢
قال الإمام الغزالي : إن السلف الصالح أجمعوا على التحذير من زمانهم وأهله : وآثروا العزلة وأمروا بذلك وتواصوا بها ولا شك أنهم كانوا بصدد النصح وأن الزمان لم يصر بعدهم خيراً مما كان بل أدهى وأمر.
قال الحافظ :
توعمر حواه وصبوري كه رخ شعبدباز
هزار بازى ازين طرفه تربرانكيزد
ان دام هذا ولم يحدث له غير
لم يبك ميت ولم يفرح بمولود
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٤٢
اللهم اجعلنا من الصابرين.
﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ اللام للتعليل، أي : لأجلهم، والمراد أبو سفيان وأصحابه.
﴿إِن يَنتَهُوا﴾ عن معاداة الرسول بالدخول في الإسلام.
﴿يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ من ذنوبهم قبل الإسلام ﴿وَإِن يَعُودُوا﴾ إلى قتاله انتقمنا منهم وأهلكناهم ﴿فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاوَّلِينَ﴾ الذين تحزبوا على الأنبياء بالتدمير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثل ذلك وأنشد بعضهم :
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف
ثم انتهى عما أتاه واقترف
لقوله قل للذين كفروا


الصفحة التالية
Icon