ومنها : أن من سنة الله أن يرى النبي عليه السلام حقائق الأشياء حقاً وصدقاً، وهو يخبر بها ثم يراها أرباب الصورة في الظاهر بضدها ابتلاء واختباراً للمؤمن والمنافق، فالمؤمن يثبت على إيمانه بتصديق النبي عليه السلام وتسليمه في أقواله وأعماله وأحواله من غير اعتراض، فيزيده الله إيماناً مع إيمانه، والمنافق تزل قدمه وتشوش حاله بالاعتراض ويزيد نفاقه على النفاق وعماه على العمى وإلى الله ترجع الأمور فحال المؤمن وأمره يرجع إلى رضاه وحال المنافق وأمره يرجع إلى سخطه والرضى والسخط من آثار لطفه وقهره يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وقس على هذا إلهامات الأولياء وأحوالهم مع معتقديهم ومنكريهم، فإن الاختبار والابتلاء سنة قديمة وكم ترى من الصوفية من يزعم أنه يحب فلاناً ويعتقده وطريقته حقاً فإذا جاء سطوة القهر بإراءة ما هو غير ملائم لطبعه نكص على عقبيه واتخذه غرضاً لطعنه وتشنيعه وأين هو من المحبة وهو مقام عال يجتمع عنده اللطف والقهر والجمال والجلال فلا يتشوش صاحبه من الأحوال العارضة المرئية في صورة التنزل والتدلي، ولذا كثر أرباب الصورة وقل أصحاب المعنى ويكفي لكل مرشد كامل واحد ممن يلزم طريقته وينبع هداه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٤٧
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} أي : حاربتم جماعة كافرة لأن اللقاء مما غلب في الحرب والقتال وهم ما كانوا يحاربون إلا الكفار.
﴿فَاثْبُتُوا﴾ وقت لقائهم وقتالهم ولا تنهزموا وفي الحديث :"لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا" وإنما نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه من صورة الإعجاب والوثوق بالقوة ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو وتحقيرهم وهذا يخالف الاحتياط، كما قالوا في آداب المناظرة إنه ينبغي أن لا يحسب المناظر الخصم حقيراً،
٣٥١
أي : صغيراً ذليلاً لأن استحقار الخصم ربما يؤدي إلى صدور الكلام الضعيف من المناظر لعدم المبالاة فيكون سبباً لغلبة الخصم الضعيف عليه فيكون الضعيف قوياً والقوي ضعيفاً والشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أعم.
فعلى العاقل أن يسأل العفو والعافية فإنه لا يدري ما يفعل به.
أول شكسته باش كه اوج سرير ملك
يوسف س ازمجاورت قعر اه افت
﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ أي في تضاعيف القتال ومواطن الشدة بالتكبير والتهليل وغيرهما، وادعوه بنصر المؤمنين وخذلان الكافرين كالذين ﴿قَالُوا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ﴾ (البقرة : ٢٥٠) ﴿لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي : تفوزون بمرامكم وتظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة، وفيه تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر الله وأن يلتجىء إليه عند الشدائد ويقبل إليه بالكلية فارغ البال واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في حال من الأحوال، وعلى أن ذكر الله تعالى له تأثير عظيم في دفع المضار وجلب المنافع.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥١
توبهر حالي كه باشى روز وشب
يك نفس غافل مباش ازذكررب
درخوشى ذكرتوشكر نعمتست
در بلاها التجا باحضر تست
قال بعض الحكماء : إنجنة في الدنيا من دخلها يطيب عيشه وهي مجالس الذكر، وفي الحديث :"إنسيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر فإذا أتوا عليهم حفوا بهم ثم بعثوا رائدهم إلى السماء إلى رب العزة تبارك وتعالى فيقولون ربنا أتينا على عباد من عبادك يعظمون آلاءك ويتلون كتابك ويصلون على نبيك محمد صلى الله عليه وسلّم ويسألونك لآخرتهم ودنياهم فيقول الله تبارك وتعالى غشوهم رحمتي فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم".
قال في "أنوار المشارق" : وكما يستحب الذكر يستحب الجلوس في حلق أهله والعادة جرت في حلق الذكر بالعلانية إذ لم يعرف في كرّ الدهور حلقة ذكر اجتمع عليها قوم ذاكرون في أنفسهم فالذكر برفع الصوت أشد تأثيراً في قمع الخواطر الراسخة على قلب المبتدىء، وأيضاً يغتنم الناس بإظهار الدين بركة الذكر من السامعين في الدور والبيوت ويشهد له يوم القيامة كل رطب ويابس سمع صوته خصوصاً في مواضع الازدحام بين الغافلين من العوام لتنبيه الغافلين وتوفيق الفاسقين.


الصفحة التالية
Icon