الباطنة بالمجاهدات والجهاد مع الكفار جهاد أصغر والجهاد مع النفس جهاد أكبر والأكبر أفضل من الأصغر ولذلك يكون القتيل في الأكبر صديقاً وفي الأصغر شهيداً فالصديق فوق الشهيد، كما قال تعالى :﴿فأولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّانَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ﴾ والخلاص من ظلمات الخلقية والفوز بأنوار الذكر الذي الاشتغال به من أكبر أنواع الجهاد وأسرع قدم في الوصول إلى رب العباد نسأل الله تعالى أن يحققنا بحقائق الذكر والتوحيد.
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في كل ما تأتون وما تذرون خصوصاً في أمر الجهاد وثبات القدم في معركة القتال ﴿وَلا تَنَـازَعُوا﴾ باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر وأُحد ﴿فَتَفْشَلُوا﴾ جواب للنهي يقال فشل أي كسل وضعف وتراخى وجبن ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ بالنصب عطف على جواب النهي أي تذهب دولتكم وشوكتكم فإنها مستعارة للدولة من حيث إنها في تمشي أمرها ونفاذه مشبهة بها في هبوبها وجريانها.
وقيل : المراد بها الحقيقة فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثها الله تعالى ويقال لها ريح النصرة.
وروي أنه حاصر المدينة قريش غطفان وبنو قريظة وبنو النضير يوم الخندق فهبت ريح الصبا شديداً فقلعت خيامهم وأراقت قدورهم وهربوا فقال عليه السلام :"نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" والصبا بفتح الصاد وبالقصر ريح تهب من المشرق، والدبور : هي ما يقابل الصبا في الهبوب يعني الريح مأمورة تجيء تارة للنصرة وتارة للإهلاك، وفي "المثنوي" :
جمله ذرات زمين وآسمان
لشكر حقند كاه امتحان
بادرا ديديكه باعادان ه كرد
ابرا ديديكه باطوفان ه كرد
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥١
﴿وَاصْبِرُوا﴾ على شدائد الحرب وقتال المشركين ولا تولوهم الأدبار.
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ﴾ بالنصرة والكلاءة وما يفهم من كلمة مع من أصالتهم إنما هي من حيث إنهم المباشرون للصبر فهم متبوعون من تلك الحيثية ومعيته تعالى إنما هي من حيث الإمداد والإعانة ﴿وَلا تَكُونُوا﴾ أيها المؤمنون ﴿كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَـارِهِم﴾ يعني : أهل مكة حين خرجوا منها لحماية العير أي القافلة المقبلة من الشام.
﴿بَطَرًا﴾ مفعول له.
أي : افتخاراً بمآثر الأصول من الآباء والأمهات وأشراً وهو مقابلة النعمة بالتكبر والخيلاء.
﴿وَرِئَآءَ النَّاسِ﴾ ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة أتاهم رسول أبي سفيان، وقال : ارجعوا فقد سلمت عيركم من أصحاب محمد ومن نهبهم، فقال أبو جهل : لا والله حتى نقدم بدراً ونشرب بها الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب فوافوها، أي أتوا بدراً ولكن سقوا كأس المنايا بدل كأس الخمور وناحت عليهم النوائح مكان تغني القيان، فنهى المؤمنون أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين وأمرهم بالتقوى والإخلاص لأن النهي عن الشيء مستلزم للأمر بضده ﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ عطف على بطراً بتأويل المصدر أي وصداً ومنعاً للناس عن دين الله المؤدي إلى الجنة والثواب.
﴿وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ فيجازيهم عليه.
وفيه تهديد على الأعمال القبيحة خصوصاً ما ذكر في هذه الآية من البطر.
والرئاء : هو إظهار الجميل وإبطان القبيح وهو من الصفات المذمومة للنفس.
٣٥٤
وحكي عن بعض الصالحين أنه قال : كنت ليلة في وقت السحر في غرفة لي على الطريق أقرأ سورة طه فلما ختمتها غفوت غفوة فرأيت شخصاً نزل من السماء بيده صحيفة فنشرها بين يدي فإذا فيها سورة طه، وإذا تحت كل كلمة عشر حسنات مثبتة إلا كلمة واحدة فإني رأيت مكانها محواً ولم أرَ تحتها شيئاً، فقلت : والله لقد قرأت هذه الكلمة ولا أرى ثواباً ولا أراها أثبتت فقال الشخص صدقت قد قرأتها وكتبناها إلا أنا قد سمعنا منادياً ينادي من قبل العرش امحوها وأسقطوا ثوابها فمحوناها، قال فبكيت في منامي فقلت لم فعلتم ذلك فقال مر رجل فرفعت بها صوتك لأجله فذهب ثوابها وفي الحديث :"إن النار وأهلها يعجون من أهل الرياء" أي : يتضرعون ويرفعون الصوت قيل يا رسول الله وكيف تعج النار قال :"من ضر الناس الذين يعذبون بها" فويل للمرائي في عمله، ومن الرياء التزيي بزي القوم تصنعاً ودوران البلاد تفرجاً ليتباهى بذلك على الإخوان، كما يفعله أكثر المتسمين بالصوفية في هذا الزمان فإن مقصودهم ليس التقليد بلباس القوم تبركاً مع التحقق بمعانيهم فهم محرومون من أنوار المعرفة وأسرار الحقيقة خارجون عن دائرة الطريقة.
قال الحافظ :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥١
مدعى خواست كه آيد بتماشا كه راز
دست غيب آمد وبر سينه نا محرم زد
فعلى العاقل إخلاص العمل وهو إرادة التقرب إلى الله تعالى وتعظيم أمره وإجابة دعوته سواء كان من العبادات المالية أو البدنية.


الصفحة التالية
Icon