قيل : إذا صحت هذه الرواية فالجواب أن الله خلق إبليس في صورة سراقة والله تعالى قادر على خلق إنسان في مثل صورة سراقة ابتداء فكان قادراً على أن يصور إبليس في مثل صورة سراقة كما في "التفسير الحدادي".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥١
وقال القاضي أبو يعلى : ولا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور وإنما يجوز أن يعلمهم الله تعالى كلمات وضرباً من ضروب الأفعال إذا فعله أو تكلم بها نقله الله تعالى من صورة إلى صورة فيقال إنه قادر على التصوير والتخييل على معنى أنه قادر على قول إذا قاله أو فعل إذا فعله نقله الله تعالى من صورته إلى صورة أخرى بجري العادة وأما أن يصور نفسه فذاك محال ؛ لأن انتقالها من صورة إلى صورة إنما يكون بنقض البنية وتفريق الأجزاء وإذا انتقضت بطلت الحياة واستحال وقوع الفعل بالجملة فكيف بنقل نفسها قال والقول في تشكيل الملائكة مثل ذلك والذي روي أن إبليس تصور في صورة سراقة بن مالك وأن جبريل تمثل في صورة دحية وقوله تعالى :﴿فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ (مريم : ١٧) محمول على ما ذكرنا وهو إنه قدره الله تعالى على قول قاله فنقله الله تعالى من صورته إلى صورة أخرى كذا في "آكام المرجان" ونظر فيه والهي الأسكوبي بأن من قال تمثل جبريل عليه السلام وتصور إبليس عليه ما يستحق ليس مراده أنهما أحدثا تلك الصورة والمثال من قدرتهما نفسهما بل بإقدار الله لهما على التصور والتمثل كيف شاءا فلا منافاة بين القولين غاية ما في الباب أن العمل من طريق ما أقدره الله به من الأسباب المخصوصة انتهى.
يقول الفقير : إن الملائكة والشياطين من قبيل الأرواح اللطيفة وللأرواح التصور بأنواع الصور كما أن للأجسام التلون بألوان الألبسة وكل ذلك بأقدار الله تعالى في الحقيقة لكن هذا المعنى صعب المسلك فلا يهتدي إلى دركه إلا الأنبياء والأولياء المكاشفون عن حقيقة الأمر والله أعلم.
ثم إن من عادة الشيطان أن يقحم من أطاعه ورطة الهلاك ثم يتبرأ منه.
حكي أن عابداً عبد الله في صومعته دهراً طويلاً فولدت لملكهم ابنة فأنف الملك أن يمسها الرجال فأخرجها إلى صومعته وأسكنها معه كيلا يعرف أحد مكانها ويستخطبها منه فكبرت الابنة فحضر إبليس على صورة شيخ وخدعه بها حتى واقعها الزاهد وأحبلها، فلما ظهر بها الحبل رجع إليه فقال له إنك زاهدنا وإنها لو ولدت يظهر زناك فتصير فضيحة فاقتلها قبل الولادة، وأعلم والدها أنها قد ماتت فيصدقك فتنجو من العذاب والشين فقتلها الزاهد فجاء الشيطان إلى الملك في زيّ العلماء فأخبره بصنع الزاهد بابنته من الإحبال والقتل، وقال : إن أردت أن تعرف حقيقة ما أخبرتك فانبش قبرها وشق بطنها فإن خرج منها ولد فهو مصداق مقالتي وإن لم يخرج فاقتلني ففعل الملك ذلك فإذا الأمر كما قال : فأخذ الزاهد وأركبه الإبل وحمله إلى بلده فصلبه فجاءه الشيطان وهو مصلوب فقال له إنك زنيت بأمري وقتلت نفساً بأمري فآمن بي أنجك من عذاب الملك فأدركته الشقاوة فآمن به فهرب الشيطان منه ووقف من بعيد فقال الزاهد نجني فقال الشيطان إني أخاف الله رب العالمين.
فعلى العاقل الحذر من كيده.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥١
وفي "المثنوي" :
آدمى را دشمن نهان بسيست
آدمىء باحذر عاقل كسيست
واعلم أن الشيطان إذا ظفر بالسالك يغره بالقوة والكمال والبلوغ إلى مرتبة الرجال وإنه
٣٥٧
لا يضره التصرف في الدنيا وارتكاب بعض المنهيات، بل ينفعه في نفي الرياء والعجب كما هو طريقة أهل الملامة.
قال بعض أرباب الحقيقة : يجوز أن تظهر لنفسك ما يوجب نفي دعواها من مباح مستبشع أو مكروه لم يمنع دواء لعلة العجب لا محرماً متفقاً عليه انتهى، فليكن هذا على ذكر منك فإن صوفية الزمان قد تجاوزوا الحلال إلى الحرام وتركوا العهود بينهم وبين المشايخ الكرام ولم يعرفوا أن السلامة في الأخذ بالكتاب وسنة النبي عليه السلام والتأدب بآداب وضعها الخواص من الأنام لمن يطلب الدخول إلى حرم أسرار الله الملك العلام.
قال الحافظ :
در راه عشق وسوسه اهر من بسيست
هش دار وكوش دل بيام سروش كن
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥١


الصفحة التالية
Icon