﴿إِذِ﴾ منصوب باذكر ﴿يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ﴾ من أهل المدينة من الأوس والخزرج.
﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ من قريش كانوا قد أسلموا ولم يهاجروا لعدم قوة إسلامهم، ولمنع أقربائهم إياهم من الهجرة فلما خرجت قريش إلى بدر أخرجوهم معهم كرهاً، ولما رأوا قلة عدد المسلمين ارتابوا وارتدوا، وقالوا لأهل مكة :﴿غَرَّ هَـاؤُلاءِ﴾ يعنون المؤمنون ﴿دِينُهُمْ﴾ ؛ إذ خرجوا مع قلة عددهم وعددهم لحرب قريش مع كثرتهم وشوكتهم ولم يشكوا، بل قطعوا بأن قريشاً تغلبهم لأنهم زهاء الألف والمؤمنون ثلاثمائة وبضعة عشر، فقال الله تعالى : جواباً لهم ﴿وَمَنِ﴾ (هركه) ﴿يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ أي : ومن يسلم أمره إلى الله تعالى ويثق به وبقضائه، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ غالب لا يذل من توكل عليه واستجار به وإن قل ﴿حَكِيمٌ﴾ يفعل بحكمته البالغة ما تستبعده العقول وتحار في فهمه ألباب الفحول.
روي أن الحجاج بن يوسف سمع ملبياً يلبي حول البيت رافعاً صوته بالتلبية، وكان إذ ذاك بمكة فقال عليّ بالرجل فأتي به إليه، فقال : ممن الرجل؟ قال من المسلمين، فقال : ليس عن الإسلام سألتك قال فعم سألت؟ قال : سألتك عن البلد قال من أهل اليمن، قال كيف تركت محمد بن يوسف؟ يعني : أخاه قال تركته عظيماً جسيماً لباساً ركاباً خراجاً ولاجاً، قال : ليس عن هذا سألتك قال : فعم سألت؟ قال : سألتك عن سيرته قال تركته ظلوماً غشوماً مطيعاً للمخلوق عاصياً للخالق، فقال له الحجاج : ما حملك على هذا الكلام وأنت تعلم مكانه مني، قال الرجل : أترى مكانه منك أعز مني بمكاني من الله، وأنا وافد بيته وزائر نبيه وقاضي دينه ومتبع دينه فسكت الحجاج ولم يجر جواباً وانصرف الرجل من غير إذن، فتعلق بأستار الكعبة، وقال : اللهم بك أعوذ وبك ألوذ، اللهم فرجك القريب ومعروفك القديم وعادتك الحسنة، فانظر إلى هذا الرجل كيف أظهر الحق ولم يخف من المخلوق خصوصاً من الحجاج الذي كان أظلم خلق الله في زمانه حتى كسر الأعراض وسفك الدماء، وفعل ما فعل إلى حيث يضيق نطاق البيان عنه فلما توكل على الله واستجار به نصره الله وهو بانفراده على الحجاج وهو مع جمعه لأن الصحيح السالم وهو المؤمن غالب على السقيم المبتلى، وهو المنافق والحجاج كان من منافقي هذه الأمة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥٨
واعلم : أن مرض القلوب على نوعين : نوع منه الشك في الإيمان والدين وحقيقته فذلك مرض قلوب الكفار والمنافقين.
والثاني : ميلها إلى الدنيا وشهواتها وملاحظة الحظوظ النفسانية وهو مرض قلوب المسلمين.
والإشارة فيه : أن المعالجة لما يكون في قلوب الكفار والمنافقين بالإيمان والتصديق واليقين وإن ماتوا في مرضهم فهم من الهالكين، ومعالجة
٣٥٨
مرض قلوب المسلمين بالتوبة والاستغفار والزهد والطاعة والورع والتقوى وإن ماتوا في مرضهم فهم من أهل النجاة من النار بعد العذاب وشفاعة الأنبياء، وربما يؤدي مرضهم بترك المعالجة والاحتماء إلى الهلاك وهو الكفر ألا ترى إلى حال بعض المسلمين من أهل مكة لما تركوا العلاج، وانقطعوا عن الطبيب وهو النبي عليه السلام وما احتموا عن الغذاء المخالف وهو قولهم غر هؤلاء دينهم هلكوا مع الهالكين ظاهراً وباطناً.
فعلى العاقل تحصيل حسن الحال قبل حلول الأجل وهو إنما يكون بصحبة واصل إلى الله عز وجل والله تعالى يجود على الخلق عامة فكيف على العقلاء والعشاق.
قال الحافظ :
عاشق كه شدكه يار بحالش نظر نكرد
أي خواجه دردنيست وكرنه طبيب هست
وقال آخر :
مكو أصحاب دل رفتند وشهر عشق شد خالي
جهان ر شمس تبر يزاست ومردى كوو مولانا
اللهم وفقنا لما تحب وترضى وسهل علينا مداواة هذه القلوب المرضى.
﴿وَلَوْ تَرَى﴾ يا محمد حال الكفرة، أي لو رأيت فإن لو تجعل المضارع ماضياً عكس إن ﴿إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الملائكة﴾ أي حين تقبض أعوان ملك الموت أرواح الكفار ببدر فالملائكة فاعل يتوفى ﴿يَضْرِبُونَ﴾ أي حال كون الملائكة يضربون بمقامع من حديد كلما ضربوا التهب النار منها ﴿وُجُوهَهُمْ﴾ أي : ما أقبل من أعضائهم ﴿وَأَدْبَـارَهُمْ﴾ أي ما أدبر منها ﴿وَذُوقُوا﴾ أي يضربون ويقولون ذوقوا بعد السيف في الدنيا.
﴿عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ أي : العذاب المحرق الذي هو مقدمة عذاب الآخرة فهو فعيل بمعنى مفعل يقال حرقه بالنار وأحرقه وحرقه فاحترق وتحرق وجواب لو محذوف للإيذان بخروجه عن حدود البيان أي لرأيت أمراً فظيعاً لا يكاد يوصف.


الصفحة التالية
Icon