﴿ذَالِكَ﴾ المذكور من الضرب والعذاب واقع.
﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أي : بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي، فاليد عبارة عن النفس الدراكة عبر عنها باسم أغلب آلاتها في اكتساب الأفعال.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها، أي : والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم فلا يجازي أهل الإيمان بجهنم وعذابها وإنما يجازي أهل الكفر والنفاق والارتداد بظلمهم على أنفسهم وسر التعبير عن نفي التعذيب بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم قطعاً عند أهل السنة فضلاً عن كونه ظلماً بالغاً قد مر في سورة آل عمران.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥٨
فإن قلت ظلام أخص من ظالم لأنه للمبالغة المقتضية للتكثير ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم.
قلت : المراد بكثرة الظلم كثرته باعتبار كثرة متعلقه فإن لفظ العبيد يدل على الكثرة فيكون ما أصابهم من الظلم كثيراً نظراً إلى كثرتهم فالمنفي عن كل واحد منهم أصل الظلم، فالمعنى : أنه تعالى لا يظلم أحداً من عبيده وأيضاً إنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى القليل لأن الذي يظلم إنما ظلم للانتفاع بالظلم فإذا ترك كثيره مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر كان لقليله مع قلة نفعه اترك.
وأيضاً إن الظلام للنسبة كما في بزاز وعطار أي لا ينسب إليه ظلم البتة ﴿كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ﴾ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أي : عادة كفار قريش في كفرهم وعنادهم كعادة آل فرعون المشهورين بقباحة
٣٥٩
الأعمال، وأصل الدأب في اللغة إدامة العمل يقال فلان يدأب في كذا أي يداوم عليه ويواظب ويتعب نفسه فيه، ثم سميت العادة دأباً ؛ لأن الإنسان يداوم على عادته وآل الرجل الذين يرجعون إليه بأوكد الأسباب ولهذا لا يقال لقرابة الرجل آل الرجل ولا يقال لأصحابه آله والمقصود هنا كدأب فرعون وآله أي : أتباعه.
﴿وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي : من قبل آل فرعون كقوم نوح وثمود وعاد وغيرهم من أهل الكفر والعناد.
﴿كَفَرُوا بآيات اللَّهِ﴾ تفسير للدأب، والآية هي دلائل التوحيد المنصوبة في الأنفس والآفاق أو معجزات الأنبياء على الإطلاق ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ أي : عاقبهم الله تعالى بسبب كفرهم وسائر معاصيهم.
﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لا يغلبه في دفعه شيء.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥٨
﴿ذَالِكَ﴾ أي : ترتب العقاب على أعمالهم السيئة دون أن يقع ابتداء مع قدرته تعالى على ذلك.
﴿بِأَنَّ اللَّهَ﴾ أي : بسبب أنه تعالى.
﴿لَمْ يَكُ﴾ في حد ذاته.
وأصله يكن فحذفت النون تخفيفاً لشبهها بحرف اللين من حيث كونها حرف غنة فكما يحذف حرف اللين حال الجزم حذفت النون الساكنة أيضاً للتخفيف لكثرة استعمال فعل الكون، ولم يحذف في نحو لم يصن ولم يخن لقلة استعمالهما بالنسبة إلى لم يكن وكثرة الاستعمال تستدعي التخفيف.
﴿مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا﴾ أي : لم ينبغ له سبحانه ولم يصح في حكمته أن يكون بحيث يغير نعمة أنعم بها ﴿عَلَى قَوْم﴾ من الأقوام، أي : نعمة كانت جلت أو هانت.
﴿حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ من الأعمال والأحوال التي كانوا عليها وقت ملابستهم للنعمة ويتصفوا بما ينافيها سواء كانت أحوالهم السابقة مرضية صالحة، أو قريبة من الصلاح بالنسبة إلى الحادثة كدأب هؤلاء الكفرة حيث كانوا قبل البعثة كفرة عبدة الأصنام مستمرين على حالة مصححة لإفاضة نعمة الإمهال وسائر النعم الدنيوية عليهم، فلما بعث إليهم النبي عليه السلام بالبينات غيروها إلى أسوأ منها وأسخط حيث كذبوه عليه الصلاة والسلام وعادوه ومن تبعه من المؤمنين وتحزبوا عليهم يبغونهم الغوائل فغير الله تعالى ما أنعم به عليهم من نعمة الإمهال وعاجلهم بالعذاب والنكال.
وقال الحدادي : أطعمهم الله من جوع وآمنهم من خوف وأرسل إليهم رسولاً منهم وأنزل عليهم كتاباً بألسنتهم ثم إنهم غيروا هذه النعم ولم يشكروها ولم يعرفوها من الله فغير الله ما بهم وأهلكهم وعاقبهم ببدر.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي : وبسبب أن الله تعالى يسمع ويعلم جميع ما يأتون وما يذرون من الأقوال والأفعال السابقة واللاحقة فيرتب على كل منها ما يليق بها من إبقاء النعمة وتغييرها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٦٠
﴿كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ﴾ تكرير للتأكيد ﴿كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَا وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِ﴾ وعطف قوله تعالى :﴿وَأَغْرَقْنَآ ءَالَ فِرْعَونَ﴾ على (أهلكنا) مع اندراجه تحته للإيذان بكمال هول الإغراق وفظاعته كعطف جبرائيل على الملائكة ﴿وَكُلٌّ﴾ من غرقى القبط وقتلى قريش ﴿كَانُوا ظَـالِمِينَ﴾ أنفسهم بالكفر والمعاصي حيث عرّضوها للهلاك أو واضعين للكفر والتكذيب مكان الإيمان التصديق.


الصفحة التالية
Icon