﴿إِلا﴾ أي : إن لا ﴿إِلا تَفْعَلُوهُ﴾ أي : ما أمرتم به من التواصل بينكم وتولي بعضكم بعضاً حتى في التوارث ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار.
﴿تَكُن﴾ تامة ﴿فِتْنَةٌ فِى الأرْضِ﴾ أي : تحصل فتنة عظيمة فيها وهي ضعف الإيمان وظهور الكفر.
﴿وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ في الدارين وفيه إشارة إلى مساعدة طالب النصرة بأي وجه كان فإن تركها يؤدي إلى الخسران وارتفاع الأمان، وفي الحديث :"انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" ونصرة الظالم بنهيه عن الظلم.
وفي "فتاوى ضيخان" : إذا وقع النفير من قبل الروم فعلى كل من يقدر على القتال أن يخرج إلى الغزو إذا ملك الزاد والراحلة ولا يجوز له التخلف إلا بعذر بين انتهى.
وكما أنه لا كلام في فضيلة الإعانة والإمداد كذلك لا كلام في الهجرة إلى ما يقوم به دين المرء من البلاد.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما رأى ما نزل بالمسلمين من توالي الأذى عليهم من كفار قريش مع عدم قدرته على إنقاذهم مما هم فيه قال لهم :"تفرقوا في الأرض فإن الله سيجمعكم" قالوا إلى أين تذهب قال :"ههنا" وأشار بيده إلى جهة الحبشة وفي رواية قال لهم :"اخرجوا إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً عظيماً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه".
يقول الفقير، أصلحه الله القدير : سمعت من حضرة شيخي العلامة أبقاه الله بالسلامة أنه قال : لو كان لي مال لهاجرت من قسطنطينية إلى أرض الهند لأنه لا فائدة في الإقامة مع سلطان لا غيرة له أصلاً من جهة الدين، ثم ذكر تورع سلطان الهند وهذا الكلام مطابق للشريعة والطريقة.
وقد قال بعض الكبار : إن الأولياء لا يقيمون في بلاد الظلم وجاء في الحديث :"من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة، وكان رفيق أبيه خليل الله إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام"
٣٧٨
فهاجر إلى الحبشة ناس من مخافة الفتنة وفراراً إلى الله تعالى بدينهم منهم من هاجر إلى الله بأهله، ومنهم من هاجر بنفسه وهي الهجرة الأولى فمن آمن بأن طلب الله تعالى حق واجب هاجر من غير الله فهاجر من أفعاله القبيحة الطبيعية إلى الأفعال الحسنة الشرعية ومن الأوصاف الذميمة إلى الأخلاق الحميدة ومن الوجود المجازي إلى الوجود الحقيقي، وبذل ماله ونفسه في طلب الحق وترك كل باطل هو غير الحق.
قال السيد البخاري قدس سره :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٧٥
هست تاج عارفان اندرجهان ازار ترك
ترك دنيا ترك عقبا ترك هستي ترك ترك
وفي الحديث :"كان فيما كان قبلكم رجل قتل تسعاً وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعاً وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال : لا فقتله فكمل به المائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم، فقال : إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال : نعم ومن يحول بينك وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا بلغ نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيراً قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم حكماً، فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو لها فقاسوه فوجوده أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة".
وفي رواية :"فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي".
فإن قلت : الظاهر من الحديث أنه قبلت توبة ذلك الرجل وهذا مخالف لما ثبت في الشرع من أن حقوق العباد لا تسقط بالتوبة.
قلنا إذا تاب ظالم لغيره وقبل الله توبته يغفر له ذنب مخالفة أمر الله وما بقي عليه من حق العبد فهو في مشيئة الله إن شاء أرضى خصمه وإن شاء أخذ حقه منه والحديث من القسم الأول وعلى تقدير الإرضاء لا يكون ساقطاً أيضاً لأخذه عوضه من الله وفي الحديث استحباب أن يفارق التائب موضع الذنب والمساعدين ويستبدل منهم صحبة أهل الصلاح اللهم اجعلنا من المهاجرين وألحقنا بعبادك الصالحين.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٧٥