﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي : هذه براءة مبتدأه من جهة الله ورسوله واصلة.
﴿إِلَى الَّذِينَ عَـاهَدتُّم﴾ أيها المسلمون ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ فمن لابتداء الغاية وإلى لانتهاء الغاية متعلقان بمحذوف كما تقول هذا كتاب من فلان إلى فلان أي واصل منه إليه وليست كلمة من صلة براءة، كما في قولك : برئت من فلان، والبراءة من الله : انقطاع العصمة ونقض العهد ولم يذكر ما تعلق به البراءة كما في إن الله بريء من المشركين اكتفاء بما في حيز الصلة واحترازاً عن تكرير لفظة من ولما كانت المعاهدة غير واجبة بل مباحة مأذونة وكان الاتفاق للعهد من المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم نسب إليهم مع أن مباشرة أمرها إنما تتصور من المسلمين لا من الله تعالى وإن كانت بإذن الله تعالى، بخلاف البراءة فإنها واجبة أوجبها الله تعالى وأمر منوط بجناب الله تعالى كسائر الأوامر غير متوقفة على رأي المخاطبين.
والمعنى : أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين فإنه منبوذ إليهم والعهد العقد الموثق باليمين وقد كانوا عاهدوا مشركي العرب من أهل مكة وغيرهم بإذن الله واتفاق الرسول فنكثوا إلا بني ضمرة وبني كنانة فأمر المسلمون بنبذ العهد إلى الناكثين وأمهلوا أربعة أشهر كما قال تعالى :﴿فَسِيحُوا﴾ أي : فقولوا لهم سيحوا وسيروا ﴿فِى الارْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٨٢
مقبلين مدبرين آمنين من القتال غير خائفين من النهب والغارة.
والسيح والسياحة الذهاب في الأرض والسير فيها بسهولة على مقتضى المشيئة كسيح الماء على موجب الطبيعة ففيه من الدلالة على كمال التوسعة والترفيه ما ليس في سيروا ونظائره وزيادة في الأرض لقصد التعميم لأقطارها من دار الإسلام وغيرها، والمراد إباحة ذلك لهم وتخليتهم وشأنهم للحرب أو تحصين الأهل والمال أو تحصيل الحرب أو غير ذلك لا تكليفهم بالسياحة فيها، والمراد بالأشهر الأربعة : هي الأشهر الحرم التي علق القتال بانسلاخها هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ؛ لأن السورة نزلت في شوال سنة تسع من الهجرة بعد فتح مكة فإنه كان في السنة الثامنة منها أمروا بأن لا يتعرضوا للكفار بتلك المدة صيانة للأشهر الحرم عن القتال فيها، ثم نسخ وجوبها ليتفكروا ويعلموا أن ليس لهم بعد هذه المدة إلا الإسلام أو السيف فيصير ذلك حاملاً لهم على الإسلام ولئلا ينسبوا المسلمين إلى الخيانة ونقض العهد على غفلة المعاهدين، وقيل هي عشرون
٣٨٢
من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من شهر ربيع الآخر لأن التبليغ كان يوم النحر كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولي سنة الفتح عتاب بن أسيد الوقوف بالناس في الموسم واجتمع في تلك السنة في الوقوف المسلمون والمشركون فلما كانت سنة تسع بعث أبا بكر رضي الله عنه أميراً على الموسم فلما خرج منطلقاً نحو مكة أتبعه علياً رضي الله عنه راكب العضباء ليقرأ هذه السورة على أهل الموسم فقيل له عليه السلام لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال :"لا يؤدي عني إلا رجل مني" وذلك ؛ لأن عادة العرب أن لا يتولى أمر العهد والنقض على القبيلة إلا رجل منها سيدهم أو واحد من رهطه وعترته فبعث علياً إزاحة للعلة لئلا يقولوا هذا خلاف ما نعرفه فينا في العهد والنقض، فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء، وهو صوت ذوات الحوافر، فوقف وقال هذا : رغاء ناقة رسول الله فلما لحقه قال أمير أم مأمور قال مأمور فمضيا فلما كان قبل يوم التروية خطب أبو بكر وحدثهم عن مساكنهم وقام عليّ يوم النحر عند جمرة العقبة فقال :"يا أيها الناس إني رسول الله إليكم فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية من أول هذه السورة، ثم قال : أمرت بأربع "أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك.
ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده".
وقال الحدادي : كان الحج في السنة التي قرأ علي رضي الله عنه فيها هذه السورة في العاشر من ذي القعدة ثم صار الحج في السنة الثانية في ذي الحجة وكان السبب في تقديم الحج في سنة العهد ما كان يفعله بنو كنانة في النسيء وهو التأخير انتهى فعلى هذا كان المراد بالأشهر الأربعة من عشر ذي القعدة إلى عشر من شهر ربيع الأول كما ذهب إليه البعض ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ﴾ بسياحتكم في أقطار الأرض في العرض والطول وإن ركبتم متن كل صعب وذلول ﴿غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ أي : لا تفوتونه بالهرب والتحصين.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٨٢
قال في "ربيع الأبرار" : غير معجزي الله سابقي الله وكل معجز في القرآن سابق بلغة كنانة.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ أي : واعلموا أنه تعالى.
﴿مُخْزِى الْكَـافِرِينَ﴾ أي : مذلكم في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالعذاب وما يحصل لكم من الافتضاح.
والإخزاء هو الإذلال بما فيه فضيحة وعار.


الصفحة التالية
Icon