أقول : فيه إشارة إلى أن الفاعل ينبغي أن يكون له غرض صحيح شرعي في فعله كدفع المضرة في قتل القملة والنملة وأشباههما، لا إرادة التشفي والانتقام وإيصال الأذى والآلام للقرص أو لغيره، وليكن هذا على ذكر من الصوفية المحتاطين في كل الأمور والساعين في طريق الفناء إلى يوم ينفخ في الصور.
قال الحدادي : في الآية بيان أن أهل العهد متى خالفوا شيئاً مما عاهدوهم عليه فقد نقضوا العهد وأما إذا طعن واحد منهم في الإسلام فإن كان شرط في عهودهم أن لا يذكروا كتاب الله ولا يذكروا محمداً صلى الله عليه وسلّم بما لا يجوز، ولا يفتنوا مسلماً عن دينه، ولا يقطعوا عليه طريقاً ولا يعينوا أهل الحرب بدلالة على المسلمين فإنهم إذا فعلوا ذلك فقد برئت منهم ذمة الله، وذمة رسول الله فإن فعلوا شيئاً من هذه الأشياء حل دمهم، وإن كان لم يشرط ذلك عليهم في عهودهم وطعنوا في القرآن وشتموا النبي عليه الصلاة والسلام ففيه خلاف من الفقهاء، قال أصحابنا : يعزرون ولا يقتلون واستدلوا بما روى أنس بن مالك أن امرأة يهودية أتت النبي عليه السلام بشاة مسمومة ليأكل منها فجيء بها، وقيل له أنقتلها فقال : لا" ولحديث عائشة رضي الله عنها "فإن الله عز وجل يحب الرفق في الأمر كله" فقالت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا فقال :"بلى قد قلت عليكم" ولم يقتلهم النبي عليه السلام بذلك وذهب مالك إلى أن من شتم النبي عليه السلام من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم انتهى ما في "تفسير الحدادي".
قال ابن الشيخ في الآية : دليل على أن الذمي إذا طعن في الإسلام، أي عابه وازدراه جاز قتله لأنه عوهد على أن لا يطعن في الدين فإذا طعن فقد خرج عن الذمة وعند أبي حنيفة يستتاب الذمي بطعنه في الدين ولا ينقض عهده بمجرد طعنه ما لم يصرح بالنكث انتهى.
قال المولى أخي لبى في "هدية المهديين" : الذمي إذا صرح بسبه عليه السلام أو عرض أو استخف بقدره أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به فلا خلاف عند الشافعي في قتله إن لم يسلم ؛ لأنه لم يعط له الذمة أو العهد على هذا وهو قول عامة العلماء إلا أن أبا حنيفة والثوري وأتباعهما من أهل الكوفة قالوا لا يقتل لأن ما هو عليه من الشرك أعظم لكن يعزر ويؤدب.
وقيل لا يسقط إسلام الذمي الساب قتله لأنه حق النبي عليه السلام وجب عليه لهتكه حرمته وقصده لحاق النقيصة والمعرة به عليه السلام فلم يكن
٣٩٣
رجوعه إلى الإسلام مسقطاً له كما لم يسقط سائر حقوق المسلمين من قبل إسلامه من قتل أو قذف وإذا كنا لا نقبل توبة المسلم فلأن لا نقبل توبة الكافر أولى كما في "الأسرار" و"الحاوي" فالمختار أن من صدر منه ما يدل على تخفيفه عليه السلام بعمد وقصد من عامة المسلمين يجب قتله ولا تقبل توبته بمعنى الخلاص من القتل وإن أتى بكلمتي الشهادة والرجوع والتوبة لكن لو مات بعد التوبة أو قتل حدّاً مات ميتة الإسلام في غسله وصلاته ودفنه ولو أصر على السب وتمادى عليه وأبى التوبة منه فقتل على ذلك كان كافراً وميراثه للمسلمين ولا يغسل ولا يصلى عليه ولا يكفن بل تستر عورته ويواري كما يفعل بالكفار.
والفرق بين من سب الرسول وبين من سب الله على مشهور القول باستتابته أن النبي عليه السلام بشر والبشر من جنس تلحقهم المعرة إلا من أكرمه الله تعالى بنبوته والباري منزه عن جميع المعائب قطعاً وليس من جنس تلحقهم المعرة بجنسه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٨٩
واعلم أنه قد اجتمعت الأمة على أن الاستخفاف بنبينا وبأي نبي كان من الأنبياء كفر سواء فعله فاعل ذلك استحلالاً أم فعله معتقداً بحرمته ليس بين العلماء خلاف في ذلك والقصد للسب وعدم القصد سواء إذ لا يعذر أحد في الكفر بالجهالة ولا بدعوى زلل اللسان إذا كان عقله في فطرته سليماً.
فمن قال أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان أسود أو يتيم أبي طالب أو زعم أن زهده لم يكن قصداً بل لكمال فقره ولو قدر على الطيبات أكلها ونحو ذلك يكفر وكذا من عيره برعاية الغنم أو السهو أو النسيان أو السحر أو بالميل إلى نسائه أو قال لشعره شعير بطريق الإهانة وإن أراد بالتصغير التعظيم لا يكفر ومن قال جن النبي ساعة يكفر ومن قال أغمى عليه لا يكفر.