الحدادي : وكان الله تعالى قد علم قبل أمرهم بالقتال من لا يقاتل ممن يقاتل ولكنه يعلم ذلك غيباً وأراد العلم الذي يجازي عليه، وهو علم المشاهدة لأنه يجازيهم على علمهم لا على علمه فيهم انتهى وعدم التعرض لحال المقصرين لما أن ذلك بمعزل من الاندراج تحت إرادة أكرم الأكرمين.
﴿وَلَمْ يَتَّخِذُوا﴾ عطف على جاهدوا داخل في حيز الصلة أي ولما يعلم الله الذين لم يتخذوا ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ متعلق بالاتخاذ إن أبقي على حاله أو مفعول ثاننٍ له إن جعل بمعنى التصيير.
﴿وَلا رَسُولِه وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً﴾ أي : بطانة وصاحب سر وهو الذي تطلعه على ما في ضميرك من الأسرار الخفية من الولوج وهو الدخول.
قال أبو عبيدة : كل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة تكون للواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد.
﴿وَاللَّهُ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي : بجميع أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها فيعلم غرضكم من الجهاد هل فيه إخلاص أو هو مشوب بالعلل كإحراز الغنيمة أو جلب الثناء أو نحو ذلك.
قال السعدي :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٨٩
منه آب زرجان من بر شيز
كه صراف دانا نكيرد بيز
زراند ودكانرا بآتش برند
بديد آيد آنكه كه مس يازرند
وفي الآية : حث على الجهاد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لرباط يوم في سبيل الله محتسباً من غير شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجراً من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسباً من شهر رمضان أفضل عند الله، وأعظم أجراً من عبادة ألفي سنة صيامها وقيامها فإن رده الله إلى أهله سالماً لم يكتب عليه سيئة ألف سنة ويكتب له الحسنات ويُجرى له أجر الرباط إلى يوم القيامة" وفي الحديث :"من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخل الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها" قالوا أفلا نبشر الناس قال :"إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى النة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة" وفي الحديث :"المجاهد من جاهد نفسهتعالى" جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم أشجع الناس أقهرهم لهواه" كم عاقل أسير هواه عليه أمير عبد الشهوات أذل من عبد الرق إن المرآة لا تريك خدوش وجهك مع صداها وكذلك نفسك لا تريك عيوب نفسك مع هواها.
وفي الآية بيان أن المؤمن المخلص يجتنب عن الكافر والمنافق ولا يتخذهما صاحبي سر.
روي عن شداد بن أوس وعبادة بن الصامت قالا بينما كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ قال :"هل فيكم غريب" يعني : أهل الكتاب قلنا لا يا رسول الله فأمر بغلق الباب فقال :"ارفعوا أيديكم فقولوا لا إله إلا الله" فرفعنا أيدينا ساعة ثم وضع رسول الله يده ثم قال :"الحمداللهم إنك بعثتني بهذه الكلمة وأمرتني بها ووعدتني عليها الجنة إنك لا تخلف الميعاد" ثم قال :"أبشروا فإن الله قد غفر لكم" أقول : هذا التلقين تلقين خاص قد توارثه الخواص من لدنه عليه السلام إلى هذا اليوم ولم يطلعوا عليه العوام ولم يفشوا أسرارهم إلى الأجانب فإن ذلك من الخيانة وكذا ولاية المؤمن للكافر ومحبته له من الخيانة وما الاختلاط إلا من محبة الكفر والعياذ بالله تعالى من ذلك.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٨٩
﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ نزلت الآية في جماعة من رؤساء قريش
٣٩٦
أسروا يوم بدر فيهم العباس عم النبي عليه السلام فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله فعيروهم بالشرك وجعل علي رضي الله عنه يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقطع رحمه وعون المشركين عليه وأغلظ القول له فقال العباس ما لكم تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا فقال له علي وهل لكم من محاسن قال : نعم نعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج فقال الله تعالى رداً :﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ أي ما صح وما استقام على معنى نفي الوجود والتحقق لا نفي الجواز كما في قوله تعالى :﴿أُوالَـائِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلا خَآئِفِينَ﴾ (البقرة : ١١٤) أي : ما وقع وما تحقق لهم ﴿أَن يَعْمُرُوا﴾ عمارة معتداً بها ﴿مَسَـاجِدَ اللَّهِ﴾ أي : المسجد الحرام وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامرها أو لأن كل ناحية من نواحيه المختلفة الجهات مسجد على حاله بخلاف سائر المساجد إذ ليس في نواحيها اختلاف الجهة قيل لعكرمة لم تقرأ مساجد وإنما هو مسجد واحد قال :﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ﴾ (البقرة : ١٥٨) أي : شيئاً من المساجد فضلاً عن المسجد الحرام الذي هو أفضل أفراد الجنس على أن تعريف الجمع بالإضافة للجنس فالآية على هذا الوجه كناية عن عمارة المسجد على وجه آكد من التصريح بذلك.