﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ﴾ أي : بالله قد أعانكم يا أصحاب محمد على عدوكم وأعلامكم عليهم مع ضعفكم وقلة عددكم وعددكم.
﴿فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾ من الحروب وهي مواقعها ومقاماتها.
جمع موطن، وهو كل موضع أقام به الإنسان لأمر والمراد بها واقعات بدر والأحزاب وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة.
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾ عطف على محل في مواطن بحذف المضاف في أحدهما، أي : وموطن يوم حنين ليكون من عطف المكان على المكان، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين ليكون من عطف الزمان على الزمان، وأضيف اليوم إلى حنين لوقوع الحرب يومئذٍ بها فيوم حنين هي غزوة حنين، ويقال لها : غزوة هوازن، ويقال لها غزوة أوطاس باسم الموضع الذي كانت به الواقعة في آخر الأمر وحنين واد بين مكة والطائف.
﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ (ون بشكفت آوردشمارا) أي : سرتكم كثرة عددكم ووفور عددكم والإعجاب هو السرور بالتعجب وهو بدل من يوم حنين، وكانت الواقعة في حنين بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً عشرة آلاف منهم ممن شهد فتح مكة من المهاجرين والأنصار وألفان من الطلقاء وهم أهل مكة سموا بذلك، لأنه عليه السلام أطلقهم يوم فتح مكة عنوة ولم يقيدهم بالإسار وبين هوازن وثقيف وكانوا أربعة آلاف سوى الجم الغفير من أمداد سائر العرب.
روي أنه عليه السلام فتح مكة في أواخر رمضان وقد بقيت منه ثلاثة أيام، وقيل : فتحها لثلاث عشرة ليلة مضت من رمضان ومكث فيها إلى أن دخل شوال فغدا يوم السبت السادس منه خارجاً إلى غزوة حنين، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد يصلي بهم ومعاذ بن جبل يعلمهم السنن والفقه وحين فتحت مكة أطاعه عليه الصلاة والسلام قبائل العرب إلا هوازن وثقيفاً، فإن أهلهما كانوا طغاة مردة فخافوا أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وظنوا أنه عليه السلام يدعوهم إلى الإسلام فثقل ذلك عليهم فحشدوا وبغوا وقالوا إن محمداً لاقى قوماً لا يحسنون القتال فأجمعوا أمرهم على ذلك، فأخرجوا معهم أموالهم ونساءهم وأبناءهم وراءهم فحملوا النساء فوق الإبل وراء صفوف الرجال، ثم جاؤوا بالإبل والغنم والذراري وراء ذلك كي يقاتل كل منهم عن أهله وماله ولا يفر أحد بزعمهم فساروا كذلك حتى نزلوا بأوطاس، وقد كان عليه السلام بعث إليهم عيناً ليتجسس عن حالهم وهو عبد الله بن أبي حذر من بني سليم فوصل إليهم فسمع مالك بن عوف أمير هوازن يقول لأصحابه تم اليوم أربعة آلاف رجل فإذا لقيتم العدو فاحملوا عليهم حملة رجل واحد، واكسروا جفون سيوفكم فوالله لا تضربون بأربعة آلاف سيف شيئاً إلا فرج فأقبل العين إلى النبي عليه السلام فأخبره بما سمع من مقالتهم فقال سلمة بن سلامة الوقسي الأنصاري يا رسول الله :"لن نغلب اليوم من قلة" معناه بالفارسية (ما امروز ازقلت لشكر مغلوب نخواهم شد) فساءت رسول الله كلمته وقيل : إن هذه الكلمة قالها أبو بكر رضي الله عنه وقيل : قالها رسول الله صلى الله عليه وسلّم
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠٢
قال الإمام صاحب "التفسير الكبير" : وهو بعيد لأنه عليه السلام كان في أكثر الأحوال متوكلاً على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها.
٤٠٥
قال ابن الشيخ في "حواشيه" : الظاهر القول بها لا ينافي التوكل على الله ولا يستلزم الاعتماد على الأسباب الظاهرة، فإن قوله : لن نغلب اليوم من قلة نفي للقلة وإعجاب بالكثرة.
والمعنى إن وقعت مغلوبية فلأمر آخر غير القلة فركب صلى الله عليه وسلّم بغلته دلدل ولبس درع داود عليه السلام التي لبسها حين قتل جالوت، ووضع الألوية والرايات مع المهاجرين والأنصار فلما كان بحنين وانحدروا في الوادي وذلك عند غبش الصبح يوم الثلاثاء خرج عليهم القوم وكانوا كمنوا لهم في شعاب الوادي ومضايقه وكانوا رماة فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم المشركون وخلوا الذراري فأكب المسلمون فتنادى المشركون يا حماة السوء اذكروا الفضائح فتراجعوا وحملوا عليهم فأدركت المسلمين كلمة الإعجاب، أي : لحقهم شؤم كلمة الإعجاب فانكشفوا ولم يقوموا لهم مقدار حلب شاة وذلك قوله تعالى :﴿فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـاًا﴾ أي : رحبها وسعتها على أن ما مصدرية والباء بمعنى مع، أي : لا تجدون فيها مقراً تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب ولا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه قال الشاعر :
كأن بلاد الله وهي عريضة