﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنا بَعْدِ ذَالِكَ﴾ (از س اين جنك) ﴿عَلَى مَن يَشَآءُ﴾ أن يتوب عليه منهم لحكمة تقتضيه، أي : يوفقه للإسلام.
﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي ﴿رَّحِيمٌ﴾ يتفضل عليهم ويثيبهم.
روي أن ناساً منهم جاؤوا رسول الله وبايعوه على الإسلام، وقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا، فقال عليه السلام :"إن عندي ما ترون أن خير القول أصدقه اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم" قالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً هو جمع حسب وهو ما يعد من المفاخر كنوا بهذا القول عن اختيار ما سبي منهم من الذراري والنسوان على استرجاع الأموال فإن ترك الذراري والنسوان في ذل الأسر واختيار استرجاع الأموال عليها يفضي إلى الطعن في أحسابهم وينافي المروءة فقام النبي عليه السلام فقال :"إن هؤلاء جاؤونا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً فمن كان بيده سبي وطابت نفسه أن يرد فشأنه" أي فيلزم شأنه "وليفعل ما طاب له ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه" قالوا رضينا وسلمنا فقال عليه السلام :"إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا" فرفعت إليه العرفاء أنهم قد رضوا ثم قال صلى الله عليه وسلّم "لوفد هوازن ما فعل مالك بن عوف" قالوا يا رسول الله هرب فلحق بحصن الطائف مع ثقيف فقال صلى الله عليه وسلّم "أخبروه أنه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله
٤٠٨
وماله وأعطيته مائة من الإبل" فلما بلغه هذا الخبر نزل من الحصن مستخفياً خوفاً أن تحبسه ثقيف إذا علموا الحال وركب فرسه وركضه حتى أتى الدهناء محلاً معروفاً وركب راحلته ولحق برسول الله فأدركه بالجعرانة وأسلم فرد عليه أهله وماله واستعمله عليه السلام على من أسلم من هوازن وكان مالك بن عوف بعد ذلك ممن افتتح عامة الشأم.
ثم في القصة إشارات.
منها أن عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم في تلك الواقعة كانوا في غاية الكثرة والقوة فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين فلما تضرعوا في حال الانهزام إلى الله تعالى قواهم حتى هزموا عسكر الكفار وذلك يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا آتاه الله الدين والدنيا على أحسن الوجوه.
وكما أن أكثر الأسباب الصورية وإن كان مداراً للفتح الصوري لكنه في الحقيقة لا يحصل إلا بمحض فضل الله.
فكذا كثرة الأعمال والطاعات وإن كانت سبباً للفتح المعنوي لكنه في الحقيقة أيضاً لا يحصل إلا بخصوص هداية الله تعالى فلا بد من العجز والافتقار والتضرع إلى الله الغفار.
قال الحافظ :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠٢
تكيه بر تقوى ودانش در طريقت كافريست
راهرو كرصد هنر دارد توكل بايدش
ومنها : أن المؤمن لا يخرج من الإيمان وإن عمل الكبيرة لأنهم قد ارتكبوا الكبيرة حيث هربوا وكان عددهم أكثر من عدد المشركين فسماهم الله تعالى مؤمنين في قوله :﴿ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِه وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ وكذا قال صاحب "الروضة" وفي السنة التاسعة حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس.
وفي العاشرة كانت حجة الوداع ولم يحج النبي عليه السلام بعد الهجرة سواها وحج قبل النبوة وبعدها حجات لم يتفق على عددها واعتمر بعد الهجرة أربع عمر وفي هذه السنة مات إبراهيم ابن النبي عليه السلام.
وفي الحادية عشرة فاته صلى الله عليه وسلّم انتهى اللهم اختم لنا بالخير واجعل لنا في رياض أنسك مبوأ ومنزلاً وفي حظائر قدسك مستقراً ومقاماً وموئلاً.
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} النجس بفتحتين مصدر بمعنى النجاسة وصفوا بالمصدر مبالغة كأنهم عين النجاسة يجب الاجتناب عنهم والتبري منهم وقطع مودتهم.
قال الحدادي : سمي المشرك نجساً لأن الشرك يجري مجرى القذر في أنه يجب تجنبه كما يجب تجنب النجاسات أو لأنهم لا يتطهرون من الجنابة والحدث ولا يجتنبون عن النجاسة الحقيقية فهم ملابسون لها غالباً فحكم عليهم بأنهم نجس بمعنى ذوي نجاسة حكمية وحقيقية في أعضائهم الظاهرة أو أنهم نجس بمعنى ذوي نجاسة في باطنهم حيث تنجسوا بالشرك والاعتقاد الباطل، فعلى هذا يحتمل أن يكون نجس صفة مشبهة كحسن فيجوز ترك تقدير المضاف.
﴿فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ الفاء سببية، أي : فلا يقربوه بسبب أنهم عين النجاسة فضلاً عن أن يدخلوه فإن نهيهم عن اقترابه للمبالغة في نهيهم عن دخوله.