قال في "التبيان" أي لا يدخلوا الحرم كله وحدود الحرم من جهة المدينة على ثلاثة أميال ومن طريق العراق على سبعة أميال ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال ومن طريق الطائف على تسعة أميال ومن طريق جدة على عشرة أميال انتهى.
﴿بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا﴾ وهو السنة التاسعة من الهجرة التي حج فيها أبو بكر رضي الله عنه أميراً وكانت حجة الوداع في السنة العاشرة هو الظاهر الذي عليه الإمام الشافعي وأما على مذهب الإمام الأعظم، فالمراد من الآية المنع من الدخول حاجاً أو معتمراً، فالمعنى لا يحجوا ولا يعتمروا بعد هذا العام ويدل عليه قول علي رضي الله عنه حين نادى ببراءة "ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك" فلا يمنع المشرك عنده من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠٢
قال في "الأشباه" : في أحكام الذمي ولا يمنع من دخول المسجد جنباً بخلاف المسلم ولا يتوقف دخوله على إذن مسلم عندنا ولو كان المسجد الحرام.
ثم قال في أحكام الحرم ولا يسكن فيه كافر وله الدخول فيه انتهى.
يقول الفقير : لعل الحكمة في أن الجنب المسلم يمنع من دخول المسجد دون الجنب الكافر أن ما هو عليه الكافر من الشرك أو الخبث القلبي والجنابة المعنوية أعظم من حدثه الصوري فلا فائدة في منعه نعم إذا كان عليه نجاسة حقيقية يمنع ؛ لأنا مأمورون بتطهير المساجد عن القاذورات ولذا قالوا بحرمة إدخال الصبيان والمجانين في المساجد حيث غلب تنجيسهم وإلا فيكره كما في "الأشباه" هذا فلما منعوا من قربان المسجد الحرام.
قال أناس من تجار بكر بن وائل وغيرهم من المشركين بعد قراءة علي هذه الآية ستعلمون يا أهل
٤١٠
مكة إذا فعلتم هذا ماذا تلقون من الشدة ومن أين تأكلون أما والله لنقطعن سبلكم ولا نحمل إليكم شيئاً فوقع ذلك في أنفس أهل مكة وشق عليهم وألقى الشيطان في قلوب المسلمين الحزن، وقال لهم : من أين تعيشون وقد نفي المشركون وانقطعت عنكم الميرة فقال المسلمون قد كنا نصيب من تجاراتهم فالآن تنقطع عنا الأسواق والتجارات ويذهب عنا الذي كنا نصيبه فيها فأنزل الله تعالى قوله :﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ أي : فقرا بسبب منعهم من الحج وانقطاع ما كانوا يجلبونه إليكم من الأرزاق والمكاسب.
﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ من عطائه أو من تفضله بوجه آخر وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليكم مدراراً أكثر من خيرهم وميرهم ووفق أهل تبالة وجرش وأسلموا وامتاروا لهم ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من أقطار الأرض.
﴿إِن شَآءَ﴾ أن يغنيكم قيده بالمشيئة مع أن التقييد بها ينافي ما هو المقصود من الآية وهو إزالة خوفهم من العيلة بفوائد :
الفائدة الأولى : أن لا يتعلق القلب بتحقق الموعود بل يتعلق بكرم من وعد به ويتضرع إليه في نيل جميع المهمات ودفع جميع الآفات والبليات.
والثانية : التنبيه على أن الإغناء الموعود ليس يجب على الله تعالى بل هو متفضل في ذلك لا يتفضل به إلا عن مشيئته وإرادته.
والثالثة : التنبيه على أن الموعود ليس بموعود بالنسبة إلى جميع الأشخاص ولا بالنسبة إلى جميع الأمكنة والأزمان ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ﴾ بمصالحكم ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما يعطي ويمنع.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠٢
قال الكاشفي :(حكم كننده است بتحقيق آمال ايشان اكردرى دربندد ديكرى بكشايد).
كمان مدار اكر ضايعم توبكذارى
كه ضايعم نكذارد مسبب الأسباب
براى من دراحسان اكر تودربندى
در دكر بكشايد مفتح الأبواب
روي عن الشيخ أبي يعقوب البصري رضي الله عنه، قال : جعت مرة في الحرم عشرة أيام فوجد ضعفاً، فحدثتني نفسي أن أخرج إلى الوادي لعلي أجد شيئاً ليسكن به ضعفي فخرجت فوجدت سلجمة مطروحة فأخذتها فوجدت في قلبي منها وحشة، وكأن قائلاً يقول : لي جعت عشرة أيام فآخرها يكون حظك سلجمة مطروحة متغيرة فرميت بها فدخلت المسجد فقعدت فإذا برجل جاء فجلس بين يدي ووضع قمطرة وقال هذه لك، قلت كيف خصصتني بها؟ فقال : اعلم أنا كنا في البحر منذ عشرة أيام فأشرفت السفينة على الغرق فنذر كل واحد منا نذراً إن خلصنا الله أن يتصدق بشيء ونذرت أنا إن خلصني الله أن أتصدق بهذه على أول من يقع عليه بصري من المجاورين وأنت أول من لقيته قلت : افتحها فإذا فيها كعك سميذ ممصر ولوزمقشر وسكر كعاب فقبضت قبضة من ذا وقبضة من ذا وقلت رد الباقي إلى صبيانك هدية مني إليهم وقد قبلتها ثم قلت في نفسي رزقك يسير إليك منذ عشرة أيام وأنت تطلبه من الوادي.
قال الصائب :
فكر آب ودانه دركنج قفس بي حاصلست
زير رخ انديشه روزى را باشد مرا
وفي الآية : إشارة إلى أن الله تعالى قد رفع قلم التكليف عن الإنسان إلى أن يبلغ استكمال القالب ففي تلك المدة كانت النفس وصفاتها يطفن حول كعبة القلب مستمدة من القوى
٤١١