العقلية والروحانية وبهذا يظفرن بمشتهياتهن من الدنيا ونعيمها حتى صار تعبد الدنيا دأبهن والإشراك بالله طبعهن وبذلك تكامل القالب واستوت أوصاف البشرية الحيوانية عند ظهور الشهوة بالبلوغ ثم أجرى الله عليهم قلم التكليف ونهى القلب عن اتباع النفوس وأمره بقتالها ونهاها عن تطوافها لئلا تنجس كعبة القلب بنجاسة شرك النفس والأوصاف الذميمة فلما منعت النفس عن تطوافها بحوالي القلب خاف القلب من فوات حظوظه من الشهوات بتبعية النفس فأغناه الله عن تلك الحظوظ بما يفتح عليه من فضل مواهبه من الواردات الربانية والشواهد والكشوف الرحمانية وفي قوله :﴿إِن شَآءَ﴾.
قال الحافظ :
سكندررا نمى بخشند آبى
بزورو زر ميسر نيست اين كار
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠٢
﴿قَـاتَلُوا﴾ (بكشيدى اي مؤمنان وكارزار كنيد) ﴿الَّذِينَ﴾ (با آنا نكه) ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ كما ينبغي فإن اليهود مثنية والنصارى مثلثة فإيمانهم بالله كلا إيمان ﴿وَلا بِالْيَوْمِ الاخِرِ﴾ كما ينبغي فإن اليهود ذهبوا إلى نفي الأكل والشرب في الجنة والنصارى إلى إثبات المعاد الروحاني فعلمهم بأحوال الآخرة كلا علم، فكذا إيمانهم المبني عليه ليس بإيمان والمؤمن الكامل هو الذي يصف الله تعالى بما يليق به فيوحده وينزهه ويثبت المعاد الجسماني والروحاني كليهما، والنعيم الصوري والمعنوي أيضاً فإن لكل من الجسم والروح حظاً من النعيم يليق بحاله ويناسب لمقامه.
﴿وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ أي : ما ثبت تحريمه بالوحي المتلو هو الكتاب أو غير المتلو وهو السنة وذلك مثل الدم الميتة ولحم الخنزير والخمر ونظائرها.
﴿وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ﴾ يجوز أن يكون مصدر يدينون وأن يكون مفعولاً به ويدينون بمعنى يعتقدون ويقبلون، والحق صفة مشبهة بمعنى الثابت وإضافة الدين إليه من قبيل إضافة الموصوف إلى صفته وأصل الكلام ولا يدينون الدين الحق وهو دين الإسلام فإنه دين ثابت نسخ جميع ما سواه من الأديان.
وعن قتادة أن الحق هو الله تعالى.
والمعنى ولا يدينون دين الله الذي هو الإسلام فإن الدين عند الله الإسلام.
﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ﴾ من التوراة والإنجيل وهو بيان للذين لا يؤمنون.
﴿حَتَّى﴾ للغاية ﴿يُعْطُوا﴾ أي : يقبلوا أن يعطوا فإن غاية القتال ليست نفس هذا الإعطاء بل قبوله ﴿الْجِزْيَةَ﴾ فعلة من جزى دينه إذا قضاه سمي ما يعطيه المعاهد مما تقرر عليه بمقتضى عهده جزية لوجوب قضائه عليه أو لأنها تجزي عن الذمي، أي : تقضي وتكفي عن القتل فإنه إذا قبلها يسقط عنه القتل.
﴿عَن يَدٍ﴾ حال من الضمير في يعطوا، أي : عن يدهم بمعنى مسلمين بأيديهم غير باعثين بأيدي غيرهم ولذلك منع من التوكيل فيه أو عن يد مطيعة غير ممتنعة، أي : منقادين مطعين فإذا احتيج في أخذها منهم إلى الجبر والإكراه لا يبقى عقد الذمة بل يعود حكم القتل والقتال فالإعطاء عن يد كناية عن الانقياد والطوع يقال أعطى فلان بيده إذا استسلم وانقاد، وعلاقة المجاز أن من أبى وامتنع لا يعطي بيده بخلاف المطيع أو عن غنى، ولذلك قيل : لم تجب الجزية على الفقير العاجز عن الكسب أو عن إنعام عليه، فإن إبقاء مهجتهم بما بذلوا من الجزية نعمة عظيمة عليهم أو عن يد قاهرة مستولية عليهم وهي
٤١٢
يد الآخذ فعن سببية كما في قولك يسمنون عن الأكل والشرب أي يبلغون إلى غاية السمن وحسن الهيئة بسبب الأكل والشرب.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠٢
﴿وَهُمْ صَـاغِرُونَ﴾ أي : إذلاء وذلك بأن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس ويؤخذ بتلبيبه أي بجيبه ويجر ويقال له أد الجزية يا ذمي أو يا عدو الله وإن كانوا يؤدونها.
واعلم أن الكفار ثلاثة أنواع.
نوع منهم يقاتلون حتى يسلموا ؛ إذ لا يقبل منهم إلا الإسلام وهم مشركو العرب والمرتدون، أما مشركو العرب : فلأن النبي عليه السلام بعث منهم فظهرت المعجزات لديهم فكفرهم يكون أفحش، وأما المرتدون : فلأنهم عدلوا عن دين الحق بعد اطلاعهم على محاسنه فيكون كفرهم أقبح فالعقوبة على قدر الجناية وفي وضع الجزية تخفيف لهم فلم يستحقوه.
ونوع آخر يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وهم اليهود والنصارى والمجوس.
أما اليهود والنصارى فبهذه الآية.
وأما المجوس فبقوله عليه السلام :"سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم وآكلي ذبحائهم".