﴿وَرُهْبَـانَهُمْ﴾ أي : اتخذوا النصارى علماءهم جمع راهب وهو الذي تمكنت الرهبة والخشية في قلبه وظهرت آثارها في وجهه ولسانه وهيئته وغلب في عباد النصارى وأصحاب الصوامع منهم.
﴿أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ أي : كالأرباب فهو من باب التشبيه البليغ.
والمعنى أطاعوا علماءهم وعبادهم فيما أمروهم به طاعة العبيد للأرباب فحرموا ما أحل الله وحللوا ما حرم الله، وفي الحديث :"إن محرم الحلال كمحلل الحرام" أي : أن عقوبة محرم الحلال كعقوبة محلل الحرام وذلك كفر محض ومثاله أن من اعتقد أن اللبن حرام يكون كمن اعتقد أن الخمر حلال ومن اعتقد أن لحم الغنم حرام يكون كمن اعتقد أن لحم الخنزير حلال.
﴿وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ عطف على رهبانهم أي اتخذه النصارى رباً معبوداً بعد ما قالوا إنه ابن الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً وجمع اليهود والنصارى في ضمير اتخذوا لأمن اللبس ﴿وَمَآ أُمِرُوا﴾ أي : والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في التوراة والإنجيل وبادىء العقل.
﴿إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَـاهًا وَاحِدًا﴾ عظيم الشأن هو الله تعالى ويطيعوا أمره ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه فإن ذلك مخل بعبادته فإن جميع الكتب السماوية متفقة على ذلك قاطبة، وأما إطاعة الرسول وسائر من أمر الله بطاعته فهي في الحقيقة إطاعة الله تعالى.
﴿لا إله إِلا هُوَ﴾ صفة ثانية لا لها ﴿سُبْحَـانَه عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ما مصدرية، أي :
٤١٥
تنزيهاً عن الإشراك به في العبادة والطاعة.
﴿يُرِيدُونَ﴾ أي : يريد أهل الكتابين، ﴿أَن يُطْفِـاُوا﴾ يخمدوا ﴿نُورَ اللَّهِ﴾ أي : يردوا القرآن ويكذبوه فيما نطق به من التوحيد والتنزه عن الشركاء والأولاد والشرائع التي من جملتها ما خالفوه من أمر الحل والحرمة.
﴿بِأَفْوَاهِهِم﴾ بأقاويلهم الباطلة الخارجة منها من غير أن يكون لها مصداق تنطبق عليه وأصل تستند إليه حسبما حكي عنهم.
﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾ إنما صح الاستثناء المفرغ من الموجب لكونه بمعنى النفي أي لا يريد الله شيئاً من الأشياء إلا إتمام نوره بإعلاء كلمة التوحيد وإعزاز دين الإسلام.
﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ﴾ جواب لو محذوف لدلالة ما قبله عليه والجملة معطوفة على جملة قبلها مقدرة كلتاهما في موقع الحال، أي : لا يريد الله إلا إتمام نوره ولو لم يكره الكافرون ذلك بل ولو كرهوا أي على كل حال مفروض وقد حذفت الأولى في الباب حذفاً مطرداً لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة لأن الشيء إذا تحقق عند المانع فلأن يتحقق عند عدمه أولى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤١٤
راغى راكه ايزد بر فروزد
كسى كش ف كند سبلت بسوزد
﴿هُوَ الَّذِى﴾ أي : الذي لا يريد شيئاً إلا إتمام نوره ودينه هو الذي ﴿أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾ ملتبساً ﴿بِالْهُدَى﴾ أي : القرآن الذي هو هدى للمتقين.
﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾ أي : الدين الحق وهو دين الإسلام ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ أي : ليغلب الرسول.
﴿عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ أي : على أهل الأديان كلهم فالمضاف محذوف أو ليظهر الدين الحق على سائر الأديان بنسخه إياها حسبما تقتضيه الحكمة واللام في ليظهره لإثبات السبب الموجب للإرسال، فهذه اللام لام الحكمة، والسبب شرعاً ولام العلة عقلاً لأن أفعال الله تعالى ليست بمعللة بالأغراض عند الأشاعرة لكنها مستتبعة لغايات جليلة، فنزل ترتب الغاية على ما هي ثمرة له منزلة ترتب الغرض على ما هو غرض له.
﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ ذلك الإظهار ووصفهم بالشرك بعد وصفهم بالكفر للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الكفر بالله.
قال ابن الشيخ : وغلبة دين الحق على سائر الأديان تكون على التزايد أبداً وتتم عند نزول عيسى عليه السلام لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال في نزول عيسى "ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام" وقيل ذلك عند خروج المهدي فإنه حينئذٍ لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام والتزم أداء الخراج، وفي الحديث :"لا يزداد الأمر إلا شدة ولا الدنيا إلا إدباراً ولا الناس إلا شحاً ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ولا مهدي إلا عيسى بن مريم" ومعناه لا يكون أحد صاحب المهدي إلا عيسى بن مريم فإنه ينزل لنصرته وصحبته والمهدي الذي من عترة النبي عليه السلام إمام عادل ليس بنبي ولا رسول، والفرق بينهما أن عيسى هو المهدي المرسل الموحى إليه والمهدي ليس بنبي موحى إليه وأيضاً أن عيسى خاتم الولاية المطلقة والمهدي خاتم الخلافة المطلقة وكل منهما يخدم هذا الدين الذي هو خير الأديان وأحبها إلى الله تعالى.
وعن بعض الروم، قال : كان سبب إسلامي أنه غزانا المسلمون فكنت أساير جيشهم فوجدت غزاة في الساقة فأسرت نحو عشرة نفر وحملتهم على البغال بعد أن قيدتهم وجعلت مع كل واحد منهم رجلاً موكلاً به، فرأيت في بعض الأيام رجلاً من الأسرى يصلي فقلت للموكل به
٤١٦