يحرم فيها القتال جعلت أنفس الأشهر حرماً لكونها أزمنة لحرمة ما حل فيها من القتال وهو من قبيل إسناد الحكم إلى ظرفه إسناداً مجازياً وأجزاء الزمان وإن كانت متشابهة في الحقيقة إلا أنه تعالى له أن يميز بعض الأمور المتشابهة بمزيد حرمة لم يجعلها في البعض الآخر.
كما ميز يوم الجمعة، ويوم عرفة بحرمة لم يجعلها في سائر الأيام حيث خصهما بعبادة مخصوصة تميزا بها عن سائر الأيام، وكذا ميز شهر رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة لم يجعلها لسائر الشهور.
وميز بعض ساعات الليل والنهار بأن جعلها أوقاتاً لوجوب الصلاة فيها، وكما ميز الأماكن والبلدان وفضلها على سائرها كالبلد الحرام والمسجد الحرام فخص الله تعالى بعض الأوقات وبعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام فلا بعد في تخصيص بعض الأشهر بمزيد الحرمة بأن جعل انتهاك المحارم فيها أشد وأعظم من انتهاكها في سائر الأشهر ويضاعف فيها السيئات بتكثير عقوباتها ويضاعف فيها الحسنات بتكثير مثوباتها.
وفي "أسئلة الحكم" : فضل الأشهر والأيام والأوقات بعضها على بعض كما فضل الرسل والأمم بعضها على بعض لتبادر النفوس وتسارع القلوب إلى إدراكها واحترامها وتتشوق الأرواح إلى إحيائها بالتعبد فيها ويرغب الخلق في فضائلها، وأما تضاعف الحسنات في بعضها فمن المواهب اللدنية والاختصاصات الربانية.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤١٧
وفي "الأسرار المحمدية" : إن الله تعالى إذا أحب عبداً استعمله في الأوقات الفاضلات بفواضل الأعمال الصالحات وإذا مقته والعياذ بالله شتت همه واستعمله بسيىء الأعمال وأوجع في عقوبته وأشد لمقته بحرمان بركة الوقت وانتهاك حرمته فليبذل المريد كل وسعه حتى لا يغفل عنها أي عن الأوقات الفاضلة، فإنها موسم الخيرات ومظانّ التجارات ومتى غفل التاجر عن المواسم لم يربح ومتى غفل عن فضائل الأوقات لم تنجح دع التكاسل تغنم قد جرى مثل (كه زاد راهروان جستيست والاكى).
واتفق أهل العلم على أفضلية شهر رمضان لأنه أنزل فيه القرآن، ثم شهر ربيع الأول لأنه مولد حبيب الرحمن، ثم رجب لأنه فرد أشهر الحرم، ثم شعبان لأنه شهر حبيب الرحمن مقسم الأعمال والآجال بين شهرين عظيمين رجب ورمضان ففيه فضل الجوارين العظيمين ليس لغيره.
ثم ذو الحجة لأنه موطن الحج والعشر التي تعادل كل ليلة منها ليلة القدر، ثم المحرم شهر الأنبياء عليهم السلام ورأس السنة وأحد الأشهر الحرم ثم الأقرب إلى أفضل الأشهر من وجوه ﴿ذَالِكَ﴾ أي : تحريم الأشهر الأربعة المعينة هو ﴿الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام والعرب ورثوه منهما حتى أحدثت النسيء فغيروا ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾ بهتك حرمتهن وارتكاب ما حرم فيهن.
قال في "التبيان" : قال في الاثني عشر منها فوحد الضمير لأنه للكثرة.
وقال في الأربعة فيهن فجمع الضمير لأنه للقلة وسببه أن الضمير في القلة للمؤنث يرجع بالهاء والنون وفي الكثرة يرجع بالهاء والألف للفرق بين القلة والكثرة والجمهور على أن حرمة القتال فيهن منسوخة وأوّلوا الظلم بارتكاب المعاصي فيهن فإنه أعظم وزراً كارتكابها في الحرم وخلال الإحرام يعني أن هذه الأشهر الأربعة خصت بالنهي عن ظلم النفس فيها مع أن الظلم حرام في كل وقت لبيان أن الظلم فيها أغلظ كأنه قيل فلا تظلموا فيهن خصوصاً أنفسكم.
﴿وَقَـاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً﴾ مصدر كف فإن
٤٢٣
مصدر الثلاثي قد يجيء على فاعلة نحو عافية ومعناه معنى كل وجميع وهو منصوب على الحال إما من الفاعل وهو الواو، فالمعنى قاتلوا جميعاً المشركين أي مجتمعين على قتالهم متعاونين متناصرين ومن التعاون الدعاء بالنصرة إذ هو سلاح معنوي كما أن السيف سلاح صوري فمن تأخر ودعا فقلبه مجتمع بمن أقدم وغزا إذ التفرق الصوري لا يقدح في الاجتماع المعنوي.
كما قال الحافظ :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤١٧
در راه عشق مرحله قرب وبعد نيست
مى بينمت عيان ودعا مى فرستمت
﴿كَمَا يُقَـاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً﴾ كذلك، أي : مجتمعين وإما من المفعول فالمعنى قاتلوا المشركين جميعاً أي بكليتهم ولا تتركوا القتال مع بعضهم كما أنهم يستحلون قتال جميعكم وإما منهما معاً نحو ضرب زيد عمراً قائمين، فإن المصدر عام للتثنية والجمع، فجميع المؤمنين يقاتل جميع الكافرين ويجوز أن يكون منصوباً على الظرف، أي : في الحل والحرم وفي جميع الأزمان في الأشهر الحرم وفي غيرها وإلى الأبد فإن الجهاد مستمر إلى آخر الزمان، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ أي معكم النصر والإمداد فيما تباشرون من القتال وإنما وضع المظهر موضعه مدحاً لهم بالتقوى وحثاً للقاصرين عليه وإيذاناً بأنه المدار في النصر كذا في "الإرشاد".