وأما قوله :"ولا هامة" بالتخفيف ففيه تأويلان : أحدهما : أن العرب كانت تتشاءم بالهامة وهي الطير المعروف من طير الليل وقيل هي البومة كانت إذا سقطت على دار أحدهم قالوا نعت إليه نفسه أو بعض أهله هذا تفسير مالك بن أنس.
والثاني : أن العرب كانت تعتقد أن روح القتيل الذي لم يؤخذ بثاره تصير هامة فتنشر جناحيها عند قبره وتصيح اسقوني اسقوني من دم قاتلي فإذا أخذ بثاره طارت وقيل كانوا يزعمون أن عظام الميت إذا بليت تصير هامة ويسمونها الصدى بالفارسية (كوف) وتخرج من القبر وتتردد وتأتي الميت بأخبار أهله وهذا تفسير أكثر العلماء وهو المشهور ويجوز أن يكون المراد النوعين وأنه عليه السلام نهى عنهما جميعاً.
وفي "فتاوى قاضيخان" : إذا صاحت الهامة، فقال أحد : يموت رجل قال بعضهم : يكون ذلك كفراً وكذا لو رجع فقال ارجع لصياح العقعق كفر عند بعضهم.
وأما قوله :"ولا صفر" : ففيه تأويلان أيضاً الأول : أن الجاهلية كانت تعتقد أن في الجوف حية يقال لها الصفر تعض كبد الإنسان عضاً إذا جاع.
والثاني : أن المراد تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر وهو النسيء الذي كانوا يفعلونه ويجوز أن يكون المراد هذا والأول جميعاً وإن الصفرين جميعاً باطلان لا أصل لهما وقيل كانوا يتشاءمون بصفر فنفاه النبي عليه السلام بقوله ولا صفر يحكى أن بعض الأعراب أراد السفر في أول السنة فقال : إن سافرت في المحرم كنت جديراً أن أحرم وإن رحلت في صفر خشيت على يدي تصفر فأخر السفر إلى شهر ربيع
٤٢٧
الأول فلما سافر مرض ولم يحظ بطائل فقال ظننته من ربيع الرياض فإذا هو من ربيع الأمراض.
وكانت وقعة صفين بين علي ومعاوية غرة صفر سنة سبع وثلاثين قيل لذلك احترز عن صفر.
قال في "روضة الأخبار" : ذهب الجمهور إلى أن القعود في صفر أولى من الحركة.
عن النبي عليه السلام :"من بشرني بخروج صفر أبشره بالجنة" انتهى.
يقول الفقير هذا الحديث، لا يدل على مدعاه وهو أولوية القعود في صفر فإن النبي عليه السلام إنما قال كذلك شغفاً بشهر ولادته ووفاته وحباً لدخوله فإن الأنبياء والأولياء يستبشرون بالموت لكونه تحفة لهم وينتظرون زمانه إذ ليس انتقالهم إلا إلى جوار الله تعالى وفي الحديث :"لا تسافروا في محاق الشهر ولا إذا كان القمر في العقرب" وكان علي "يكره التزوج والسفر إذا نزل القمر في العقرب" وهو إسناد صحيح.
قال حضرة الشيخ الشهير بأفتاده افندي : إن نحوسة الأيام قد ارتفعت عن المؤمنين بشرف نبينا عليه السلام وأما ما نقل عن علي من أنه عد سبعة أيام في كل شهر نحساً فعلى تقدير صحة النقل محمول على نحوسة النفس والطبيعة، فليست السعادة والشقاوة إلا لسعادتهما وشقاوتهما فإذا تخلصتا من الشقاوة لم يبق نحوسة انتهى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤١٧
قال في "عقد الدرر واللآلى" : وكثير من الجهال يتشاءم من صفر وربما ينهى عن السفر والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها، وكذا التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء وأيام العجائز في آخر الشتاء، وكذا تشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة.
وقد قيل : إن طاعوناً وقع في شوال في سنة من السنين فمات فيه كثير من العرائس فتشاءم بذلك أهل الجاهلية وقد ورد الشرع بإبطاله قالت عائشة رضي الله عنها "تزوجني رسول الله في شوال وبنى بي في شوال" فأي نسائه كان أحظى عنده مني فتخصيص الشؤم بزمان دون زمان كصفر أو غيره غير صحيح، وإنما الزمان كله خلق الله تعالى وفيه تقع أعمال بني آدم فكل زمان اشتغل فيه المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه وكل زمان اشتغل فيه بمعصية الله فهو مشؤوم عليه فالشؤم في الحقيقة هو المعصية كما قال ابن مسعود رضي الله عنه إن كان الشؤم في شيء ففيما بين اللحيين يعني اللسان وفي الحديث :"الشؤم في ثلاث في المرأة والدار والفرس" وتفسيره : إن شؤم المرأة إذا كانت غير ولود، وشؤم الدار جار السوء، فإن المرء يتأذى به كما جاء في الحديث :"ادفنوا موتاكم وسط قوم صالحين، فإن الميت يتأذى بجار السوء كما يتأذى الحي بجار السوء" وشؤم الفرس : إذا لم يغز عليه في سبيل الله فإن الخيل، ثلاثة : فرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان فأما الذي للرحمن فما اتخذ في سبيل الله وقوتل عليه أعداؤه، وأما الذي للإنسان فهو الذي يرتبطها يلتمس بطنها فهو ستر من الفقر، وأما الذي للشيطان فهو ما روهن عليه وقومر.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤١٧