﴿وَجَـاهَدُوا﴾ (وجهاد كنيد) والجهاد في الاصطلاح قتال الكفار لتقوية الدين كما في "شرح الترغيب المنذري" وهو المراد بما في "خالصة الحقائق" نقلاً عن "أهل الحكمة" الجهاد بذل المجهود وقتال المتمردين حملاً لهم على الإسلام ومنعاً لهم عن عبادة الأصنام.
واعلم : أن الجهاد لا ينافي كونه عليه السلام نبي الرحمة وذلك أنه مأمور بالجهاد مع من خالفه من الأمم
٤٣٧
بالسيف ليرتدعوا عن الكفر وقد كان عذاب الأمم المتقدمة عند مخالفة أنبياءهم بالهلاك والاستئصال فأما هذه الأمة فلم يعاجلوا بذلك كرامة لنبيهم عليه السلام ولكن يجاهدوا بالسيف وله بقية بخلاف العذاب المنزل وقد روي أن قوماً من العرب قالوا يا رسول الله أفنانا السيف فقال :"ذلك أبقى لآخركم" كذا في "أبكار الأفكار" ﴿بِأَمْوَالِكُم﴾ (بما لهاى خودكه تهيه زاد وسلاح كنيد) ﴿وَأَنفُسَكُمْ﴾ (وبنفسهاى خود كه مباشر كار زار كرديد) فهو إيجاب للجهاد بهما إن أمكن وبأحدهما عند إمكانه وإعواز الآخر حتى أن من ساعده النفس والمال يجاهد بهما ومن ساعده المال دون النفس يغزى مكانه من حاله على عكس حاله.
وفي "التأويلات النجمية" وإنما قدم إنفاق المال في طلب الحق على بذل النفس لأن بذل النفس مع بقاء الصفات الذميمة غير معتبر وهي الحرص على الدنيا والبخل بها فأشار بإنفاق المال إلى ترك الدنيا وفي الحديث :"تعس عبد الدينار وعبد الدرهم" قوله تعس بفتح العين وكسرها عثر أو هلك أو لزمه الشر أو سقط لوجهه أو انتكب وهو دعاء عليه أي أتعسه الله وإنما دعا عليه السلام على عبد الدينار والدراهم لأنه حرص على تحصيل المال من الحرام والحلال وبخل بالإنفاق في سبيل الملك الخلاق فوقف على متاع الدنيا الفاني وترك العمل لنعيم الآخرة الباقي.
قال السلطان ولد قدس سره :
بكذار جهان راكه جهان آن تونيست
وين دم كه همي زنى بفرمان تونيست
كرمال جهان جمع كنى شاد مشو
ورتكيه بجان كنى جان آن تو نيست
﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ هذا اللفظ عام يقع على كل عمل خالصتعالى سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع الطاعات وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه كما في "شرح الترغيب".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٣٧
يقول الفقير : فمعنى في سبيل الله، أي في الطريق الموصل إلى الجنة والقربة والرضى وهو أن لا يكون بهوى وغرض وإن كان حصول الجنة كما في "المفاتيح" حكي أنه كتب واحد إلى يوسف بن أسباط وهو من متقدمي الصوفية إن نفسي تنازعني إلى الغزو فما تقول فيه فكتب في الجواب لأن ترد نفسك عن هواها خير من أن تقتل أو تقتل في المعركة.
وحكي أنه لما دنا قتيبة بن مسلم من بلدة بخارى ليفتحها فانتهى إلى جيحون أخذ الكفار السفن حتى لا يعبر جيش المسلمين عليها فقال قتيبة اللهم إن كنت تعلم أني ما خرجت إلا للجهاد في سبيلك ولإعزاز دينك ولوجهك فلا تغرقني في هذا البحر وإن خرجت لغير هذا فأغرقني في هذا البحر ثم أرسل دابته في جيحون فعبره مع أصحابه بإذن الله.
روي أن بعضهم رأى إبليس في صورة شخص يعرفه وهو ناحل الجسم مصفر اللون باكي العين محقوقف الظهر فقال له ما الذي أنحل جسمك قال صهيل الخيل في سبيل الله ولو كان في سبيلي لكان أحب إليّ فقال له فما الذي غير لونك فقال تعاون الجماعة على الطاعة ولو تعاونوا على المعصية لكان أحب إليّ قال فما الذي أبكى عينك قال خروج الحاج إليه لا بتجارة أقول قد قصدوه وأخاف أن لا يخيبهم فيحزنني ذلك وفي "الصحيحين" عن أبي سعيد يرفعه قيل : يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله :"مؤمن مجاهد بنفسه وماله" قالوا ثم من قال :"مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره" ﴿ذَالِكُمْ﴾ أي : ما ذكر
٤٣٨
من النفير والجهاد ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ من القعود وترك الإمداد.
فإن قيل : ما معنى كون الجهاد خيراً من تركه والحال إنه لا خير في تركه.
أجيب بأن معناه أن ما يستفاد من الجهاد من ثواب الآخرة خير مما يستفيده القاعد عنه من الراحة وسعة العيش والتنعم بهما كما قال في "البحر" الخيرية في الدنيا بغلبة العدو ووراثة الأرض، وفي الآخرة بالثواب ورضوان الله تعالى.
قال سعد لبى : وفي الترك خير دنيوي فيه الراحة ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الخير علمتم أنه خير لأن فيه استجلاب خير الدنيا وخير الآخرة وفي خلافه مفاسد ظاهرة.
وفي "بحر الحقائق" : ترك الدنيا وبذل النفس خير لكم في طلب الحق من المال والنفس.
﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ قدر طلب الحق وعزة السير إليه فإن الحاصل من المال والنفس الوزر والوبال والحاصل من الطلب الوصول والوصال انتهى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٣٧