يعني : جعلت الجنة محفوفة بالأشياء التي كانت مكروهة لنا وجعلت النار محاطة بالأمور التي كانت محبوبة لنا وإتيان الحظوظ أسهل من تركها ولذا ترى الرجل يدخل النار بألف درهم ولا يدخل الجنة بدرهم واحد.
والآية الأخيرة أفادت التحري والتأني في الأمور وفي حديث أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي أوصني فقال النبي عليه السلام :"خذ الأمر بالتدبر فإن رأيت في عاقبته خيراً فأمضه وإن خفت غياً فأمسك" والعجلة صفة من صفات الشيطان.
روي أنه لما رأى خلقة آدم من الطين قبل أن ينفخ فيه الروح عجل في أمره وقال وعزة ربي إن جعل هذا خيراً وفضله علي فلا أطيعه وإن جعلني خيراً منه لأهلكنه فلما نفخ فيه الروح وأمر الملائكة
٤٤١
وإبليس بالسجود له عجل إبليس بالإباء لإظهار العداوة والسعي في هلاكه على ما عزم عليه أولاً ولم يتأن وينظر في أمره.
وأما التأني فمن أوصاف الرحمن ولذا خلق السموات والأرض في ستة أيام وإن كان قادراً على أن يخلقها في مقدار طرفة عين.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٣٧
فعلى العاقل العمل بالتأني والأفضل والجهاد إلى آخر العمر وحلول الأجل كيلا يكون من المتخلفين.
قال شقيق : إن الله تعالى أظهر هذا الدين وجعل عزه في الجهاد فمن أخذ منه حظه في زمانه كان كمن شاهده كله وشارك من مضى قبله من الغزاة ومن تبطأ عنه في زمانه فقد شارك المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أثمهم وعارهم والتبطؤ والتخلف إنما هو من الكل الطبيعي البدني ومن كان له حظ روحاني يجد في نفسه المسارعة إلى الخيرات.
وفي "المثنوي" :
هر كرانى وكسل خود ازتنست
جان زخفت جمله درر يدنست
اللهم اعصمنا من الكسل في باب الدين وأعنا إنك أنت المعين.
﴿لا يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ﴾ في ﴿أَن يُجَـاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ﴾ وإن الخلص منهم يبادرون إليه من غير توقف على الإذن فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف وحيث استأذنك هؤلاء في التخلف كان مظنة للتأني في أمرهم بل دليلاً على نفاقهم وعلة عدم الاستئذان الإيمان كما أن علة الاستئذان عدم الإيمان بناء على قاعدة أن تعليق الحكم بالوصف يشعر بعلية الوصف له.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالْمُتَّقِينَ﴾ شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين وعدة لهم بإجزال الثواب وإشعار بأن ما صدر عنهم معلل بالتقوى.
﴿إِنَّمَا يَسْتَـاْذِنُكَ﴾ في التخلف ﴿الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ﴾ قال في "التبيان" كان الاستئذان في ذلك الوقت علامة النفاق، قيل كانوا تسعة وثلاثين رجلاً.
﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ عطف على الصلة والماضي للدلالة على تحقق الريب والريب شك مع اضطراب القلب ودل على أن الشاك المرتاب غير مؤمن.
﴿فَهُمْ﴾ حال كونهم ﴿فِى رَيْبِهِمْ﴾ وشكهم المستقر في قلوبهم ﴿يَتَرَدَّدُونَ﴾ أي يتحيرون فإن التردد (ديدن المتحير) كما أن الثبات (ديدن المستبصر).
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٣٧
﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ﴾ يدل على أن بعضهم قالوا عند الاعتذار كنا نريد الخروج لكن لم نتهيأ له وقد قرب الرحيل بحيث لا يمكننا فكذبهم الله وقال لو أرادوا الخروج معك إلى العدو في غزوة تبوك.
﴿لاعَدُّوا لَهُ﴾ أي : للخروج في وقته ﴿عِدَّةَ﴾ أي : أهبة من الزاد والراحلة والسلاح وغير ذلك مما لا بد منه للسفر ﴿وَلَـاكِن كَرِهَ اللَّهُ انابِعَاثَهُمْ﴾ ولكن ما أرادوه لما أنه تعالى كره نهوضهم للخروج لما فيه من المفاسد الآتية.
والانبعاث (برانكيخته شدن) كما في "التاج" فلكن للاستدراك من المقدم.
وفي "حواشي سعدى لبى" : الظاهر أن لكن ههنا للتأكيد انتهى ﴿فَثَبَّطَهُمْ﴾ أي حبسهم بالجبن والكل فتثبطوا عنه ولم يستعدوا له والتثبيط صرف الإنسان عن الفعل الذي يهم به ﴿وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَـاعِدِينَ﴾ الذين شأنهم القعود وملازمة البيوت وهم الزمنى والمرضى والعميان والنساء والصبيان ففيه ذم لهم وظاهره يخالف قوله تعالى :﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا﴾ فلذا حملوه على التمثيل بأن يشبه إلقاء الله تعالى في قلوبهم كراهة الخروج بأمر آمر أمرهم بالقعود ثم بين سر كراهته تعالى لانبعاثهم فقال :
﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُم﴾ (درميان شما) أي مخالطين لكم ﴿مَّا زَادُوكُمْ﴾ أي : ما أورثوكم شيئاً من الأشياء.
٤٤٢
﴿إِلا خَبَالا﴾ أي : فساداً وشراً كالتجبين وتهويل أمر الكفار والسعي للمؤمنين بالنميمة وإفساد ذات البين وإغراء بعضهم على بعض وتحسين الأمر لبعضهم وتقبيحه للبعض الآخر ليتخلفوا وتفترق كلمتهم فهو استثناء مفرغ من أعم العام الذي هو الشيء فلا يلزم أن يكون في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم خبال وفساد ويزيد المنافقون ذلك الفساد بخروجهم فيما بينهم لأن الزيادة المستثناة إنما هي الزيادة بالنسبة إلى أعم العام لا بالنسبة إلى ما كان فيهم من القبائح والمنكرات.