﴿وَمِنْهُمُ﴾ أي : من المنافقين ﴿مَّنْ عَـاهَدَ اللَّهَ﴾ المعاهدة المعاقدة واليمين ﴿لَـاـاِنْ ءَاتَـاـنَا﴾ أي : الله تعالى ﴿مِن فَضْلِهِ﴾ (از فضل خود مالي) ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ أي : لنؤتين الزكاة وغيرها من الصدقات وأصله لنتصدقن أدغمت التاء في الصاد والمتصدق معطي الصدقة وسميت صدقة لدلالتها على صدق العبد في العبودية.
﴿وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّـالِحِينَ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد الحج نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري كان ملازماً مسجد رسول الله ليلاً ونهاراً وكان يلقب لذلك "حمامة المسجد" وكانت جبهته كركبة البعير من كثرة السجود على الأرض والحجارة المحماة بالشمس ثم جعل يخرج من المسجد كلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الفجر بالجماعة من غير لبث واشتغال بالدعاء فقال له عليه السلام يوماً "ما لك صرت تعمل عمل المنافقين بتعجيل الخروج" فقال يا رسول الله إني في غاية الفقر بحيث لي ولامرأتي ثوب واحد وهو الذي علي وأنا أصلي فيه وهي عريانة في البيت ثم أعود إليها فأنزعه وهي تلبسه فتصلي فيه فادع الله أن يرزقني مالاً فقال عليه السلام :"ويحك يا ثعلبة" وهي كلمة عذاب وقيل كلمة شفقة "قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه" فراجعه فقال عليه السلام "أما ترضى أن تكون مثل نبي الله فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهباً وفضة لسارت" وأشار إلى علم الكيمياء "ولكن أعرف أن الدنيا حظ من لاحظ له وبها يغتر من لا عقل له" فراجعه وقال يا رسول الله والذي بعثك
٤٦٩
بالحق نبياً لو دعوت الله أن يرزقني مالاً لأودين كل ذي حق حقه قال عليه السلام :"اللهم ارزق ثعلبة مالاً" ثلاث مرات فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت بها أزقة المدينة فنزل وادياً حتى فاتته الجماعة لا يصلي بالجماعة إلا الظهر والعصر ثم نمت وكثرت فتنحى مكاناً بعيداً حتى انقطع عن الجماعة والجمعة فسأل عنه رسول الله فقيل كثر ماله حتى لا يسعه وادٍ أي وادٍ واحد بل يسعه أودية وصحارى فخرج بعيداً فقال عليه السلام :"يا ويح ثعلبة" فلما نزل قوله تعالى :﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ (التوبة : ١٠٣) استعمل النبي عليه السلام رجلين على الصدقات رجلاً من الأنصار ورجلاً من بني سليم وكتب لهما الصدقة وأسنانها وأمرهما أن يأخذاها من الناس فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرأاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيه الفرائض فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية وقال : ارجعا حتى أرى رأيي وذلك قوله تعالى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٦٩
﴿فَلَمَّآ ءَاتَـاـاهُم﴾ الله تعالى المال ﴿مِن فَضْلِهِ﴾ وكرمه ﴿بَخِلُوا بِهِ﴾ أي : منعوا حق الله منه ﴿وَتَوَلَّوا﴾ أي : أعرضوا عن طاعة الله والعهد معه ﴿وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾ وهو قوم عادتهم الإعراض فلما رجعا قال لهما رسول الله قبل أن يكلماه "يا ويح ثعلبة" مرتين فنزلت فركب عمر رضي الله عنه راحلته ومضى إلى ثعلبة، وقال : ويحك يا ثعلبة هلكت قد أنزل الله فيك كذا وكذا فجاء ثعلبة بالصدقة فقال عليه السلام :"إن الله منعني أن أقبل منك فجعل يحثو التراب على رأسه لا لأنه تاب عن النفاق بل للحوق العار من عدم قبول زكاته مع المسلمين فقال عليه السلام :"هذا" أي عدم قبول صدقتك "عملك" أي جزاء عملك أراد قوله هذه جزية أمرتك فلم تطعني فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها ثم جاء بها إلى عمر رضي الله عنه في خلافته فلم يقبلها وهلك في خلافة عثمان رضي الله عنه.
قال الحدادي : لم يقبل منه عثمان صدقته انتهى.
﴿فَأَعْقَبَهُمْ﴾ أي : جعل الله عاقبة فعلهم ذلك فالمعنى على تقدير المضاف، أي أعقب فعلهم ﴿نِفَاقًا﴾ راسخاً ﴿فِي قُلُوبِهِم﴾ وسوء اعتقاد يقال أعقبه الله خيراً أي صير عاقبة أمره ذلك خيراً ويقال أكلت سمكة وأعقبتني سقماً أي صرت تلك الأكلة أو السمكة عاقبة أمري سقماً.
﴿إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ أي : إلى يوم موتهم الذي يلقون الله عنده دل على تأييد نفاقهم وأن البخل ومنع حق الله تعالى مما أعطاه إياه يؤدي إلى أن يموت وهو منافق ولا يثبت له حكم الإسلام أبداً نعوذ بالله كإبليس ترك له أمراً واحداً فطرده عن بابه وضرب وجهه بعبادته ثمانين ألف سنة ولعنه إلى يوم الدين وأعد له عذاباً أليماً أبد الآبدين.
قال الحافظ :
زاهد أيمن مشو ازبازىء غيرت زنهار
كه ره از صومعة تادير مغان اين همه نيست
﴿بِمَآ أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ﴾ بسبب إخلافهم ما وعدوه من التصدق والصلاح ﴿وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ أي لكونهم مستمرين على الكذب في جميع المقالات التي من جملتها وعدهم المذكور.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٦٩


الصفحة التالية
Icon