وفي الحديث :"ما جبل وليإلا على السخاء" وأجود الأجواد هو الله تعالى ألا ترى أنه كيف خع خلعة الوجود على عامة الكائنات مجاناً وأنعم عليهم أنواع النعم الظاهرة والباطنة أي حيث منع الخلق عن المهالك كالشهوات لا بخلاً بل شوقاً إلى اللذات الباقية.
﴿الَّذِينَ﴾ رفع على الذم أي المنافقون هم الذين ﴿يَلْمِزُونَ﴾ قال في "القاموس" اللمز العيب والإشارة بالعين ونحوها أي يعيبون ويغتابون ﴿الْمُطَّوِّعِينَ﴾ أي : المتطوعين المتنفلين ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ حال من المطوعين ﴿فِي الصَّدَقَـاتِ﴾ متعلق بيلمزون روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم خطب ذات يوم حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك يحث الناس على الإنفاق والإعانة في تجهيز العسكر، فكان أول من جاء بالصدقة أبو بكر الصديق رضي الله عنه جاء بجميع ماله أربعة آلاف درهم، فقال له رسول الله :"هل أبقيت لأهلك شيئاً" قال : أبقيت لهم الله ورسوله، وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنصف ماله، فقال : له عليه السلام :"هل أبقيت لأهلك شيئاً" قال النصف الثاني فقال :"ما بينكما ما بين كلاميكما" ومنه يعرف فضل أبي بكر على عمر رضي الله عنه وأنفق عثمان بن عفان رضي الله عنه نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها فإنه جهز عشرة آلاف أنفق عليها عشرة آلاف دينار وصب في حجر النبي عليه السلام ألف دينار وأعطى ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وخمسين فرساً وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلّم "اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض" وفي الحديث :"سألت ربي أن لا يدخل النار من صاهرته أو صاهرني" وقد كان عليه السلام زوج بنته رقية من عثمان فماتت بعد ما خرج رسول الله إلى بدر، فلما رجع من بدر زوجه أم كلثوم ولذا سمى عثمان بذي النورين ولما ماتت أم كلثوم قال عليه السلام :"لو كان عندي ثالثة لزوجتكها" وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بأربعة آلاف درهم فقال عليه السلام :"بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت" فبارك الله له حتى بلغ ماله حين مات وصولحت إحدى نسائه الأربع عن ربع ثمنها على ثمانين ألف درهم ونيف، فكان ثمن
٤٧٢
ماله أكثر من ثلاثمائة ألف وعشرين ألفاً وفي رواية جاء بأربعين أوقية من ذهب، ومن ثمة قيل عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف كانا خزانتين من خزائن الله في الأرض ينفقان في طاعة الله تعالى، وجاء العباس بمال كثير، وكذا طلحة وتصدق عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر والوسق ستون صاعاً بصاع النبي عليه السلام وهو أربعة أمداد وكل مد رطل وثلث رطل بالبغدادي عند أبي يوسف والشافعي، والرطل : مائة وثلاثون درهماً وعند أبي حنيفة كل مد رطلاً وبعثت النساء بكل ما يقدرون عليه من حليهن، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر وقال يا رسول الله بت ليلتي كلها أجر بالجرير على صاعين أما أحدهما فأمسكته لعيالي وأما الآخر فأقرضته ربي فأمره رسول الله أن ينثره في الصدقات فطعن فيهم المنافقون وقالوا ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء وسمعة وإن أبا عقيل جاء ليذكر بنفسه ويعطى من الصدقة بأكثر مما جاء به وإن الله لغني عن صاع أبي عقيل فأنزل الله هذه الآية ﴿وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ﴾ عطف على المطوعين أي ويلمزون الذين لا يجدون إلا طاقتهم من الصدقة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٧٠
قال الحدادي : عابوا المكثر بالرياء والمقل بالإقلال يقال الجهد بالفتح المشقة والجهد بالضم الطاقة وقيل الجهد في العمل والجهد في القوة.
﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾ عطف على يلمزون أي يستهزئون بهم، والمراد بهم الفريق الأخير كأبي عقيل.
﴿سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ أي : جازاهم على سخريتهم فيكون تسمية جزاء السخرية سخرية من قبيل المشاكلة لوقوعه في صحبة قوله فيسخرون منهم ﴿وَلَهُمْ﴾ أي : ثابت لهم ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ على كفرهم ونفاقهم.
اي كه دارد نفاق اندر دل
خار بادش خلده اندر حلق
هركه سازد نفاق يشه خويش
خوار كردد بنزد خالق وخلق
قال الحدادي : ولما نزلت هذه الآية أتى المنافقون إلى رسول الله وقالوا يا رسول الله استغفر لنا فكان عليه السلام يستغفر لقوم منهم على ظاهر الإسلام من غير علم منه بنفاقهم وكان إذا مات أحد منهم يسألون رسول الله الدعاء والاستغفار لميتهم فكان يستغفر لهم على أنهم مسلمون فأعلمه الله أنهم منافقون وأخبر أن استغفاره لا ينفعهم فذلك قوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon