﴿وَمَاتُوا وَهُمْ فَـاسِقُونَ﴾ أي : متمردون في الكفر خارجون عن حدوده.
روي عن ابن عباس أن رئيس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مرضه فلما دخل عليه سأله أن يستغفر له ويصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره، ثم إنه أرسل إليه عليه السلام يطلب منه قميصه ليكفن فيه فأرسل إليه القميص الفوقاني فرده فطلب الذي يلي جلده، فقال عمر رضي الله عنه تعطي قميصك لرجس النجس فقال عليه السلام :"إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً وأرجو من الله تعالى أن يدخل به ألف في الإسلام" وذلك أن المنافقين كانوا لا يفارقون ابن أبي فلما رأوه يطلب منه عليه السلام قميصه يتبرك به ويرجو أن ينفعه القميص في دفع عذاب الله وجلب رحمته وفضله، أسلم ألف من الخروج وإنما قال عليه السلام إن قميصي لا يغني لعدم الأساس الذي هو الإيمان ومثله إنما يؤثر عند صلاح المحل ويدل عليه قوله عليه السلام :"ادفنوا أمواتكم وسط قوم صالحين فإن الميت يتأذى بجار السوء كما يتأذى الحي بجار السوء" وما يروى الأرض المقدسة لا تقدس أحداً إنما يقدس المرء عمله وقد ثبت أن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه لما قتل سفيان بن خالد الهذلي ووضع بين يديه عليه السلام دفع إليه عصا كانت بيده وقال :"تخصر بهذه في الجنة" أي توكأ عليها فكانت تلك العصا عنده فلما حضرته الوفاة أوصى أهله أن يجعلوها بين جلده وكفنه ففعلوا وثبت أنه عليه السلام "حلق رأسه الشريف معمر بن عبد الله فأعطى نصف شعر رأسه لأبي طلحة وفرق النصف الآخر بين الأصحاب شعرة وشعرتين فكانوا يتبركون بها وينصرون ما داموا حاملين لها" ولذا قال في "الأسرار المحمدية" : لو وضع شعر رسول الله أو عصاه أو سوطه على قبر عاص لنجا ذلك العاصي ببركات تلك الذخيرة من العذاب وإن كان في دار إنسان أو بلدة لا يصيب سكانها بلاء ببركته وإن لم يشعروا به ومن هذا القبيل ماء زمزم والكفن المبلول به وبطانة أستار الكعبة والتكفن بها وكتابة القرآن على القراطيس والوضع في أيدي الموتى انتهى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٧٨
أقول : إن قلت قد ثبت أن في خزانة السلاطين خصوصاً في خزانة آل عثمان شيئاً مما يتبرك به من خرقة النبي عليه السلام وغيرها ورأيناهم قد لا ينصرون ومعهم شيء من لوائه عليه السلام ويصيب بلدتهم آفات كثيرة؟ قلت : لذلك لهتكم الحرمة ألا ترى أن مكة والمدينة كان لا يدخلهما طاعون فلما هتك السكان حرمتهما دخلهما والله الغفور فلما مات ابن أبي انطلق ابنه وكان مؤمناً صالحاً إلى النبي عليه السلام ودعاه إلى جنازة أبيه فقال له عليه السلام :"ما اسمك"؟ قال : الحباب بن عبد الله فقال عليه السلام :"أنت عبد الله بن عبد الله إن الحباب هو الشيطان" أي اسمه كما في "القاموس" ثم قال :"صل عليه وادفنه" فقال إن لم تصل عليه يا رسول الله لا يصلي عليه مسلم أنشدك الله أن لا تشمت بي الأعداء فأجابه عليه السلام تسلية له ومراعاة لجانبه فقام ليصلي عليه فجاء عمر رضي الله عنه فقام بين رسول الله وبين القبلة لئلا يصلي عليه وقال : أتصلي على عدو
٤٧٩
الله القائل كذا يوم كذا وكذا وكذا وعد أيامه الخبيثة فنزلت الآية وأخذ جبرائيل عليه السلام بثوبه وقال لا تصل على أحد منهم مات أبداً فأعرض عن الصلاة عليه وهذا يدل على منقبة عظيمة من مناقب عمر رضي الله عنه فإن الوحي كان ينزل على وفق قوله في آيات كثيرة منها هذه الآية وهو منصب عال ودرجة رفيعة له في الدين فلذا قال عليه السلام في حقه "لو لم أبعث لبعثت نبياً يا عمر" وقال :"إنه كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون فإنه إن كان في أمتي هذه فإنه عمر بن الخطاب" رضي الله عنه.
والمحدث بفتح الدال المشددة : هو الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به فراسة وهي الإصابة في النظر ويكون كما قال وكأنه حدثه الملأ الأعلى وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء ولم يرد النبي عليه السلام بقوله إن كان في أمتي التردد في ذلك لأن أمته أفضل الأمم وإذا وجد في غيرها محدثون ففيها أولى بل أراد به التأكيد لفضل عمر كما يقال إن يكن لي صديق فهو فلان يراد به اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي سائر الأصدقاء وقد قيل في فضيلة عمر رضي الله عنه :
له فضائل لا تخفى على أحد
إلا على أحد لا يعرف القمرا
كذا في "شرح المشارق" لابن ملك.
فإن قيل : كيف يجوز أن يقال إنه عليه السلام رغب في أن يصلي عليه بعد أن علم أنه كافر مات على الكفر وأن صلاته عليه دعاء له بالمغفرة وقد منعه الله من أن يستغفر للمشركين وأعلمه أنه لا يغفر للكفار وأيضاً الصلاة عليه ودفع قميصه إليه توجب إعزازه وهو مأمور بإهانة الكفار.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٧٨