وفي الحديث :"إن في الجنة مائة درجة" المراد بالمائة هنا الكثرة وبالدرجة المرقاة "أعدها الله للمجاهدين في سبيله" وهم الغزاة أو الحجاج أو الذين جاهدوا أنفسهم لمرضاة ربهم "كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض" وهذا التفاوت يجوز يكون صورياً وأن يكون معنوياً فيكون المراد من الدرجة المرتبة فالأقرب إلى الله تعالى يكون أرفع درجة ممن دونه "فإن سألتم الله فاسألوه الفردوس" وهو بستان في الجنة جامع لأنواع الثمر "إنه أوسط الجنة" يعني أشرفها "وأعلى الجنة" قيل : فيه دلالة على أن السموات كرية فإن الأوسط لا يكون أعلى إلا إذ كان كرياً وإن الجنة فوق السموات تحت العرش.
قال الإمام الطيبي : النكتة في الجمع بين الأوسط والأعلى أنه أراد بأحدهما الحسي وبالآخر المعنوي.
وأقول : يحتمل أن يكونا حسيين لأن كونهما أحسن وأزين مما يحس "وفوقه عرش الرحمن" هذا يدل على أنه فوق جميع الجنان "ومنه تفجر" أصله تتفجر فحذف إحدى التاءين "أنهار الجنة"، وهي أربعة مذكورة في قوله تعالى :﴿فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُوا مَآءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ * وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًا أولئك الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ﴾ (محمد : ١٥) المراد منها أصول أنهار الجنة كذا في "شرح المشارق" لابن ملك نسأل الله سبحانه الرفيق الأعلى والنظر إلى وجه الأبهى وجماله الأسنى ﴿وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الاعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ﴾ من عذر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى ولم يجدوا حقيقته أن يوهم أن له عذراً فيما يفعل ولا عذر له.
فالمعذر اسم فاعل من باب التفعيل أو من اعتذر إذا مهد العذر بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين فيكون اسم فاعل من باب الافتعال والاعتذار قد يكون بالكذب وقد يكون بالصدق وذلك لأن الاعتذار.
عبارة عن الإتيان بما هو في صورة العذر سواء كان للمعتذر عذر حقيقة أو لم يكن.
والأعراب سكان البوادي من العرب لا واحد له والعرب خلاف العجم وهم سكان الأمصار أو عام والعربة ناحية قرب المدينة وأقامت قريش بعربة فنسبت العرب إليها وهي باحة العرب وباحة دار أبي الفصاحة إسماعيل عليه السلام كما في "القاموس".
والمراد بالمعذرين أسد وغطفان واستأذنوا في التخلف حين الخروج إلى غزوة تبوك معتذرين بالجهد أي ضيق العيش وكثرة العيال أو رهط عامر بن الطفيل قالوا إن غزونا معك أغارت أعراب طي على أهالينا ومواشينا فقال عليه السلام :"سيغنيني الله عنكم" واختلفوا في أنهم كانوا معتذرين بالتصنع أو بالصحة والظاهر الثاني ويدل عليه كلام "القاموس" حيث قال قوله تعالى :﴿وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ﴾ بتشديد الذال المكسورة وهم المعتذرون الذين لهم عذر وقد يكون المعذر غير محق فالمعنى المقصرون بغير عذر انتهى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨١
أقول وعلى كل حال لا يثبت النفاق إذ المقصر وهو المعتذر للفتور والكسل لا يكون كافراً وإن كان مذموماً وقد اضطرب كلام المفسرين هناك فعليك بضبط المبنى وأخذ المعنى ﴿وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ وهم منافقو الاعراب الذين لم يجيبوا ولم يعتذروا
٤٨٣
ولم يستأذنوا في القعود فظهر أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعاء الإيمان والطاعة.
قال في "إنسان العيون" : وجاء المعذرون وهم الضعفاء والمقلون من الأعراب ليؤذن لهم في التخلف فأذن لهم وكانوا اثنين وثمانين رجلاً وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علة وجراءة على الله ورسوله وقد عناهم الله بقوله :﴿وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ انتهى.
﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ﴾ أي : من الأعراب أو من المعذرين وعلى كل تقدير فمن تبعيضية لا بيانية إذ ليس كلهم كفرة وقد علم الله تعالى أن بعض الأعراب سيؤمن وأن بعض المعذرين يعتذر لكسله لا لكفره ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ بالقتل والأسر في الدنيا والنار في الآخرة.
قال في "التأويلات النجمية" : الخلق ثلاث طبقات.
الأولى : المعذرون وهم المقصرون المعترفون بتقصيرهم وذنوبهم التائبون عن ذنوبهم المتداركون بالرحمة والمغفرة.
والثانية : القاعدون وهم الكاذبون الكذابون الذين لم يؤمنوا بالله ورسوله من الكافرين والمنافقين المتداركون بالخذلان والعذاب الأليم كما قال :﴿وَقَعَدَ الَّذِينَ﴾ الآية.
والثالثة : المؤمنون المخلصون الصادقون الناصحون ولكن فيهم أهل العذر وإليه الإشارة بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨١