﴿وَقُلْ﴾ لهم بعدما بان لهم شأن التوبة ﴿اعْمَلُوا﴾ ما شئتم من الأعمال فظاهره ترخيص وتخيير وباطنه ترغيب وترهيب.
﴿فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ فإنه لا يخفى عليه خيراً كان أو شراً تعليل لما قبله وتأكيد للتغريب والترهيب والسين للتأكيد.
﴿وَرَسُولُه وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ في الخبر :"لو أن رجلاً عمل في صخرة لا باب لها ولا كوّة لخرج عمله إلى الناس كائناً ما كان" والمعنى إنه تعالى لا يخفى عليه عملهم كما رأيتهم وتبين لكم ثم إن كان المراد بالرؤية معناها الحقيقي فالأمر ظاهر وإن أريد بها مآلها من الجزاء خيراً أو شراً فهو خاص بالدنيوي من إظهار المدح والثناء والذكر الجميل والإعزاز ونحو ذلك من الأجزية وأضدادها.
﴿وَسَتُرَدُّونَ﴾ أي : بعد الموت ﴿إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ﴾ قدم الغيب على الشهادة لسعة عالمه وزيادة خطره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما الغيب ما يسترونه من الأعمال والشهادة ما يظهرونه كقوله تعالى :﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ فالتقديم حينئذٍ لتحقيق أن نسبة علمه المحيط بالسر والعلن واحدة على أبلغ وجه وآكده لا إيهام أن علمه تعالى بما يسرون أقدم منه بما يعلنون كيف لا وعلمه سبحانه بمعلوماته منزه عن أن يكون بطريق حصول الصورة بل وجود كل شيء وتحققه في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأمور البارزة والكامنة.
قال في "التأويلات النجمية" :﴿وَسَتُرَدُّونَ﴾ بأقدام أعمالكم إلى الله الذي هو عالم بما غاب عنكم وغبتم عنه فأما ما غاب فهو نتائج أعمالكم من الخير والشر وجزاؤها فإنها إن لم تغب عنكم زدتم في الخير وما عملتم شراً وأما ما غبتم عنه فهو التقدير الأزلي والحكمة فيما جرى به القلم من أعمال الخير والشر وعالم بما تشاهده العيون والقلوب في الملك والملكوت.
﴿فَيُنَبِّئُكُم﴾ عقيب الرد الذي هو عبارة عن الأمر الممتد إلى يوم القيامة.
﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ قبل ذلك في الدنيا والمراد بالتنبئة الإظهار لما بينهما من الملابسة في أنهما سببان للعلم تنبيهاً على أنهم كانوا جاهلين بحال ما ارتكبوه غافلين عن سوء عاقبته أي يظهر لهم على رؤوس الأشهاد ويعلمهم أي شيء شنيع كانوا يعملونه في الدنيا على الاستمرار ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء انتهى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٩٥
فعلى العاقل أن يسعى في طريق الأعمال الصالحة ويجتنب عن ارتكاب الأفعال الفاضحة كيلا يفتضح عند الله وعند الرسول وكافة المؤمنين.
قال في "التأويلات النجمية" : إن لعمل المحسن وخلوصه نوراً يصعد إلى السموات بقدر
٥٠١
قوة صدقه وإخلاصه فالله تعالى يراه بنور ألوهيته وروح الرسول عليه السلام يراه بنور نبوته وأرواح المؤمنين يرونه بنور إيمانهم فاستعلاء ذلك بصفائه وضوئه يكون على قدر علو همة المحسن وخلوص نيته وصفاء طويته.
وإن العمل المسيء ظلمة تصعد إلى السموات بقدر قوة غفلته وخباثة نفسه فالله تعالى يراها وروح رسوله وأرواح المؤمنين، وفي الحديث :"تصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وصوم وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكرتعالى وتشيعه ملائكة السموات السبع حتى يقطعون به الحجب كلها إلى الله تعالى فيقفون بين يدي الرب جل جلاله ويشهدون بالعمل الصالح المخلصفيقول الله لهم أنتم الحفظة على عمل عبدي وأنا الرقيب على ما في نفسه إنه لم يردني بهذا العمل ولا أخلصه لي وأنا أعلم بما أراد بعلمه غر الآدميين وغركم ولم يغرني، وأنا علام الغيوب المطلع على ما في القلوب لا تخفى عليّ خافية ولا تعزب عني عازبة علمي بما كان كعلمي بما لم يكن وعلمي بما مضى كعلمي بما بقي وعلمي بالأولين كعلمي بالآخرين أعلم السر وأخفى، فكيف يغرّني عبدي بعمله وإنما يغر المخلوقين الذين لا يعلمون وأنا علام الغيوب، عليه لعنتي وتقول الملائكة السبعة أو الثلاثة الآلاف المشيعون يا ربنا عليه لعنتك ولعنتنا فيقول أهل السماء عليه لعنة الله ولعنة اللاعنين".
قال السعدي :
وكر سيم اندوده باشد نحاس
توان خرج كردن بر ناشناس
منه آب زر جان من بر شيز
كه صراف دانا نكيرد بيز
اعلم أن الأقلام كتبت على الألواح أحوال العالم كلها من السرائر والظواهر ثم سلمت الألواح للخزنة وجعل لكل شيء خزائن ووكلت عليها حوافظ وكوالىء، كما قال تعالى :﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ﴾ (الحجر : ٢١) فتستنسخ السفرة من الخزنة والحفظة من السفرة فللأعمال كلها مخازن تقسم منها وتنتهي إليها وغاية خزائن الأعمال الصالحة سدرة المنتهى، فعلم من هذا أن الحفظة مطلعون على أعمال العباد قلبية كانت أو قالبية، وليسوا بمطلعين على المقبول منها وغير المقبول إلا بعد العرض والرفع فكل عمل مضبوط مجزي به فإن أخفاه العبد عن الخلق لا يقدر على إخفائه عن الله تعالى وعن الملائكة.
قال السعدي قدس سره :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٩٥
در بسته ز روى خود بمردم