وقال السعدي قدس سره :
بسا نام نيكو نجاه سال
كه يك نام زشتش كند ايمال
وفي الآية : إشارة إلى أن الحكمة الإلهية اقتضت إقدام بعض النفوس على الذنوب وتأخير توبتهم وهم مترددون بين الخوف والرجاء ولهم فيما بين ذلك تربية ليطيروا بجناحي الخوف والرجاء إلى أن يصلوا إلى مقام القبض والبسط إلى أن يبلغوا سرادقات الأنس والهيبة، ثم ليطيروا بجناحي الأنس والهيبة إلى قاب قوسي السير والتجلي أو أدنى الوحدة ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بتربية عباده ﴿حَكِيمٌ﴾ بمن يصلح للقرب والقبول وبمن صلح للبعد والرد كذا في "التأويلات النجمية" :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٩٥
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا﴾ أي : ومن المتخلفين عن غزوة تبوك المنافقون الذين اتخذوا مسجد قبا وهو بضم القاف ويذكر ويقصر قرية قرب المدينة على نصف فرسخ منها كما في "التبيان".
اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما هاجر من مكة وقدم قبا نزل في بني عمرو بن عوف وهم بطن من الأوس على كلثوم بن الهدم وكان شيخ بني عمرو بن عوف وهل كان أسلم قبل وصوله صلى الله عليه وسلّم إلى قباء أو بعده ففيه اختلاف فلما نزل وذلك في يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠٤
قال عمار بن ياسر رضي الله عنه ما لرسول الله بدّ من أن يجعل له مكان يستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه فجمع حجارة فأسس رسول الله مسجداً واستتم بنيانه عمار فعمار أول من بنى مسجداً لعموم المسلمين، وكان مسجد قباء أول مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأصحابه جماعة ظاهرين أي آمنين وبعد تحوله عليه السلام إلى المدينة وذلك في يوم الجمعة بعد أن لبث في قبا بقية يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس أو بضع عشرة ليلة وهو المنقول عن البخاري أو أربعة عشر يوماً وهو المنقول عن مسلم كان يأتيه يوم السبت ماشياً وراكباً ويصلي فيه ثم ينصرف وفي الحديث :"من توضأ وأسبغ الوضوء ثم جاء مسجد قبا فصلى فيه له أجر عمرة" كما في "السيرة الحلبية" فهذا المسجد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعمار بمعاونة بني عمرو بن عوف خالصاًتعالى كما عليه الأكثرون وفي الحديث :"من بنى مسجداً لا يريد به رياء ولا سمعة بنى الله له بيتاً في الجنة" قال القرطبي : هذه المسألة ليست على ظاهرها من كل الوجوه وإنما معناه بنى له بثوابه بناء أشرف وأعظم وأرفع لأن أجور الأعمال متضاعفة وأن الحسنة بعشر أمثالها وهذا كما قال في التمرة إنها تزاد حتى تكون مثل الجبل ولكن هذا التضعيف إنما هو بحسب ما يقترن بالفعل من الإخلاص فإن بنى على غير الإخلاص أو على وجه غير مرضى فلا ثواب له ولا يعبأ الله به وإن كان في ظاهر الشرع له حكم المساجد من الاحترام والتعظيم وغير ذلك وكذا الربط والخوانق والقناطر والمطاهر وكل بناء فهو مشروط بذلك قاله في "شرح الإلمام".
قال النووي : يدخل في هذا الحديث من عمر مسجداً قد استهدم وإذا اشترك جماعة في عمارة مسجد فهل يحصل لكل منهم بيت في الجنة كما لو أعتق جماعة عبداً مشتركاً بينهم فإنهم يعتقون من النار ويجوزون العقبة لقوله تعالى :﴿وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ (البلد : ١٢، ١٣) وقد فسر النبي عليه السلام فك الرقبة بعتق البعض والقياس إلحاق المساجد
٥٠٤
بالعتق لأن فيه ترغيباً وحملاً للناس على إنشاء المساجد وعمارتها وهل يمكن الكافر من بناء المسجد فذهب بعضهم إلى أن الصحيح جوازه لقوله عليه السلام :"إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" كما في "تفسير البغوي".
قال الواحدي : عند قوله تعالى :﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَـاجِدَ اللَّهِ﴾ (التوبة : ١٧) دلت الآية على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد المسلمين ولو أوصى لم تقبل وصيته انتهى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠٤
قال سعدي لبى المفتي : عدم قبول وصيته مجمع عليه بين أصحابنا الحنفية انتهى ولا يصير الكافر ببناء المسجد مسلماً وإن عظمه حتى يأتي بالشهادتين بخلاف المسلم إذا أتى كنيسة واعتقد تعظيمها، فإنه يكفر ؛ لأن الكفر يحصل بمجرد النية، والإسلام لا يحصل إلا بالتلفظ بالشهادتين كما في "فتح القريب".
يقول الفقير سامحه الله القدير : علم منه أن بعض القبط في الديار الرومية ممن أظهر الإسلام رأيناهم يصلون ويصومون كصلاة المخلصين وصيامهم، ثم إنهم يدخلون كنائس النصارى في مواسمهم فهم مرتدون بذلك، ولا تصح الصلاة على موتاهم إن ماتوا على تلك الحالة لأنه لا شك في تعظيمهم الكنائس وموافقتهم النصارى في أفعالهم في أيامهم ولياليهم المعهودة فلا نتوقف في كفرهم، وأما تلفظهم بالشهادة فهو بحسب العادة ولا يغنى عنهم ذلك شيئاً في اعتقادهم وبعض المعاصرين من العلماء يتوقفون في كفرهم جهلاً العياذ بالله تعالى.