فعلى العاقل أن يجعل أساس دينه على الاعتقاد الصحيح والإخلاص والتقوى حتى يكون كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
ومنها : أن المنافقين بنوا مسجداً للصلاة صورة فهم إنما بنوا متحدثاً لهم حقيقة ومحلاً لقاذورات أقوالهم وأفعالهم، ولذا كان حرياً بإلقاء الجيف فيه بعد الهدم فتمتعوا قليلاً ثم وقعوا في النار جميعاً، كما قال تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَـافِقِينَ وَالْكَـافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ﴾ (النساء : ١٤٠) فكما أن من جالسهم في مجالسهم القذرة العذرة شقي شقاوة حقيقية كذلك من جالس الصديقين والعارفين في مجالسهم المطهرة وأنديتهم المقدسة سعد سعادة أبدية وتطهر طهارة أصلية، وقد قال عليه السلام :"إنهم القوم لا يشقى بهم جليسهم"، فالمراد السامع أو الجالس لأن المجالسة والسماع ينتجان عن المحبة قال عليه السلام :"المرء مع من أحب" وهنا سرّ صوفي يريد صلى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة في الدنيا بالطاعة والأدب الشرعي وفي الآخرة بالمعاينة والقرب المشهدي.
ومنها : أنهم أرادوا ببنيانهم مكراً وخديعة وغفلوا عن مكر الله تعالى بهم ولذا افتضحوا.
٥١١
مكر حق سر شمه اين مكر هاست
قلب بين الأصبعين كبرياست
آنكه سازد دردلت مكرو قياس
آتشى داند زدن اندر لاس
ومنها : أن من كانت شقاوته أصلية أزلية فهو لا يزداد بما ابتلاه الله تعالى به إلا ضلالاً وغيظاً وإنكاراً والعاقل يختار فضوح الدنيا لأنه أهون من فضوح الآخرة.
ازين هلاك مينديش وباش مردانه
كه اين هلاك بودموجب خلاص ونجات
ومنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يزل يذب الناس عن النار وعن الوقوع فيها ولذا هدم مسجد الضرار إذ لو تركه على حاله لعاد الضرر على العامة بنزول البلية وهي نار معنى ولافتتن به بعض الناس والفتنة الدينية سبب للنار حقيقة فأهل الفساد والشر لا يقرون على ما هم عليه بل ينكر عليهم أشد الإنكار بهتك أعراضهم وإخراجهم من مساكنهم إن مست الحاجة إلى الإخراج وكذا هدم بيوتهم ومنازلهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠٤
ذكر في "فتاوى أبي الليث" : رجل بنى رباطاً للمسلمين على أن يكون في يده ما دام حياً فليس لأحد أن يخرجه من يده ما لم يظهر منه أمر يستوجب الإخراج من يده كشرب الخمر فيه وما أشبه ذلك من الفسق الذي ليس فيه رضى الله لأن شروط الوقف يجب اعتبارها ولا يجوز تركها إلا للضرورة.
وقال في "نصاب الاحتساب" : فإذا كان الخانقاه يخرج من يد بانيه لفسقه فكيف يترك في الخانقاه فاسق أو مبتدع.
مثل الحديدية الذين يلبسون الحديد لأن الحديد حلية أهل النار سواء اتخذ خاتماً أو حلقة في اليد أو في الأذن أو في العنق أو غير ذلك، ومثل الجوالقية الذين يلبسون الجوالق والكساء الغليظ ويحلقون اللحية وكلاهما منكر.
فأما الأول فلأنه لباس شهرة وقد نهي عنه، وأما الثاني فلأنه من فعل الإفرنج وفيه تغيير خلق الله تعالى والتشبه بالنساء.
ومثل القلندرية الذين يقصون الشعور حتى الحاجب والأهداب وفيهم يقول الحافظ :
قلندرى نه بريشست وموى يا ابرو
حساب راه قلندر بدانكه موى بموست
كذشتن از سرمو درقلندرى سهلست
و حافظ آنكه سر بكذررد قلندراوست
وقس عليهم سائر فرق أهل البدعة وفي الحديث :"لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس وأنظر إلى أقوام يتخلفون عن الجماعة فأحرق بيوتهم" وهذا يدل على جواز إحراق بيت الذي يتخلف عن الجماعة لأن الهم على المعصية لا يجوز من الرسول عليه السلام لأنه معصية فإذا علم جواز إحراق البيت على ترك السنة المؤكدة فما ظنك في إحراق البيت على ترك الواجب والفرض عصمنا الله وإياكم من الأقوال والأفعال المنكرة.
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى﴾ روي أن الأنصار لما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً أو أربعة وسبعون من أهل المدينة قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال :"اشترطت لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً واشترطت لنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم" قال : فإذا فعلنا ذلك فما لنا قال :"الجنة" قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل أي لا نفسخه ولا ننقضه.
آن بيع راكه روز ازل باتوكرده ايم
اصلا دران حديث اقاله نميرود
فنزلت :﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لا من المنافقين والكافرين فإنهم غير مستعدين لهذه
٥١٢
المبايعة.
قال الحسن : اسمعوا إلى بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن والله ما على وجه الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة وسميت المعاهدة مبايعة تشبيهاً بالمعاوضة المالية.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠٤


الصفحة التالية
Icon