قال في "الإرشاد" : هو بيان لكون القتل في سبيل الله بذلاً للنفس وأن المقاتل في سبيله باذل لها وإن كانت سالمة غانمة فإن الإسناد في الفعلين ليس بطريق اشتراط الجمع بينهما ولا اشتراط الاتصاف بأحدهما البتة بل بطريق وصف الكل بحال البعض فإنه يتحقق القتال من الكل سواء وجد الفعلان أو أحدهما منهم أو من بعضهم، بل يتحقق ذلك وإن لم يصدر منهم أحدهما أيضاً كما إذا وجدت المضاربة ولم يوجد القتل من أحد الجانبين أو لم توجد المضاربة أيضاً فإنه يتحقق الجهاد بمجرد العزيمة والنفير وتكثير السواد وتقديم حالة القاتلية على حالة المقتولية للإيذان بعدم الفرق بينهما في كونهما مصداقاً لكون القتال بذلاً للنفس، وقرىء بتقديم المبنى للمفعول رعاية لكون الشهادة عريقة في الباب وإيذاناً بعدم مبالاتهم بالموت في سبيل الله بل بكونه أحب إليهم من السلامة واختار الحسن هذه القراءة لأنه إذا قرىء هكذا كان تسليم النفس إلى السراء أقرب وإنما يستحق البائع تسليم الثمن إليه بتسليم المبيع وأنشد الأصمعي لجعفر رضي الله عنه :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠٤
أثامن بالنفس النفيسة ربها
وليس لها في الخلق كلهمو ثمن
بها تشترى الجنات إن أنا بعتها
بشيء سواها إن ذلكموغبن
إذا ذهبت نفسي بشيء أصيبه
فقد ذهب الدنيا وق ذهب الثمن
وأنشد أبو علي الكوفي :
من يشترى قبة في عدن عالية
في ظل طوبى رفيعات مبانيها
دلالها المصطفى والله بائعها
ممن أراد وجبريل مناديها
واعلم أن من بذل نفسه وماله في طلب الجنة فله الجنة وهذا هو الجهاد الأصغر ومن بذل قلبه
٥١٤
وروحه في طلب الله فله رب الجنة وهذا هو الجهاد الأكبر لأن طريق التصفية وتبديل الأخلاق أصعب من مقاتلة الأعداء الظاهرة فالقتل إما قتل العدو الظاهر وإما قتل العدو الباطن وهو النفس وهواها ﴿وَعْدًا﴾ مصدر مؤكد لما يدل عليه كون الثمن مؤجلاً إذ الجنة يستحيل وجودها في الدنيا فمضمون الجملة السابقة ناصب له.
قال سعدى المفتي : لأن معنى اشترى بأن لهم الجنة وعدهم الله على الجهاد في سبيله ﴿عَلَيْهِ﴾ حال من قوله ﴿حَقًّا﴾ لأنه لو تأخر عنه لكان صفة له فلما تقدم عليه انتصب حالاً وأصله وعداً حقاً أي ثاتباً مستقراً عليه تعالى.
قال الكاشفي :(حقا ثابت وباقي كه خلاف دران نيست) ﴿فِي التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلِ وَالْقُرْءَانِ﴾ متعلق بمحذوف وقع صفة لوعداً أي وعداً مثبتاً مذكوراً في التوراة والإنجيل كما هو مثبت مذكور في القرآن.
يعني أن الوعد بالجنة للمقاتلين في سبيل الله من هذه الأمة مذكور في كتب الله المنزلة وجوز تعلقه باشترى فيدل على أن أهل التوراة والإنجيل أيضاً مأمورون بالقتال موعودون بالجنة.
﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِه مِنَ اللَّهِ﴾ من استفهام بمعنى الإنكار وأوفى أفعل تفضيل وقوله من الله صلته أي لا يكون أحد وافياً بالوعد والعهد وفاء الله بعهده ووعده لأنه تعالى قادر على الوفاء وغيره عاجز عنه إلا بتوفيقه إياه كما في "التأويلات النجمية" :﴿فَاسْتَبْشِرُوا﴾ الاستبشار إظهار السرور والسين فيه ليس للطلب كاستوقد وأوقد والفاء لترتيب الاستبشار على ما قبله، أي : فإذا كان كذلك فسروا نهاية السرور وافرحوا غاية الفرح بما فزتم به من الجنة، وإنما قيل : مع أن الابتهاج به باعتبار أدائه إلى الجنة ؛ لأن المراد ترغيبهم في الجهاد الذي عبر عنه بالبيع وإنما لم يذكر العقد بعنوان الشراء لأن ذلك من قبل الله لا من قبلهم والترغيب إنما يكون فيما يتم من قبلهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠٤
قال الحدادي : بيعكم أنفسكم من الله فإنه لا مشتري أرفع من الله ولا ثمن أعلى من الجنة وقوله تعالى :﴿الَّذِى بَايَعْتُم بِهِ﴾ (آنكه مبايعه كرديد بآن) لزيادة تقرير بيعهم وللإشعار بكونه مغايراً لسائر البياعات فإنه بيع للفاني بالباقي ولأن كلا البدلين له سبحانه وتعالى.
﴿وَذَالِكَ﴾ أي : الجنة التي جعلت ثمناً بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالهم.
﴿هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الذي لا فوز أعظم منه.
قال الحدادي : أي النجاة العظيمة والثواب الوافر لأنه نيل الجنة الباقية بالنفس الفانية ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى البيع الذي أمروا بالاستبشار به ويجعل ذلك كأنه نفس الفوز العظيم أو يجعل فوزاً في نفسه.
واعلم : أن الخلق كلهم ملك الله وعبيده.
وأن الله يفعل في ملكه وعبيده ما يريد.
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يقال لم لم يرد ولم لا يكون.
ومع هذا فقد اشترى من المؤمنين أنفسهم لنفاستها لديه إحساناً منه.